في أكتوبر 2023، لم تبدأ معركة جديدة في غزة فحسب، بل بدأ فصل مختلف من التاريخ الإنساني والسياسي في المنطقة. فئة من الشباب الفلسطيني اندفعت لكسر الأسطورة التي قامت عليها العقيدة الأمنية الإسرائيلية: أن الجيش لا يُقهر. لكن ما تلا ذلك كان أثقل من أي نصر تكتيكي، حرب إبادة شاملة استمرت أكثر من سبعمائة وثلاثين يومًا، حوصرت فيها غزة من كل اتجاه: لا ماء، لا دواء، لا طعام، ولا كهرباء.
ومع كل ذلك، لم تستسلم غزة. بل فرضت من تحت الركام معادلة الردع السياسي: لم يُفرج الاحتلال عن أسراه إلا عبر التفاوض، ولم تُكسر إرادة الناس رغم التجويع والقصف. إنه انتصار من نوع آخر، انتصار الوعي والصبر، وإن كان الثمن فادحًا.
لكن خلف هذا المشهد البطولي يبرز سؤال الوعي: هل كانت اندفاعة أكتوبر ضرورة للتحرر أم لحظة استعجال دفعت ثمنها أجيال كاملة؟ هل يكفي الإيمان دون تخطيط واستبصار للمآلات؟
الوعي قبل المعركة: بين سنن الإيمان ومنهج التخطيط
حين نقرأ ما حدث بعيون الوعي، ندرك أن الإيمان وحده لا يصنع النصر. في غزوة الأحزاب، واجه النبي ﷺ ظرفًا أشد قسوة حين تكالبت عليه القبائل، لكنه أدار المعركة بالعقل قبل السيف حين قبل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق. فكانت الفكرة هي السلاح الحقيقي، لا المواجهة المباشرة.
وهكذا يُفهم أن مشروع التحرر لا يقوم على الاندفاع وحده، بل على فقه المآلات وفهم قوانين السنن: أن الإعداد جزء من العبادة، وأن التخطيط شرط لتحقيق النصر. غزة اليوم تحتاج إلى هذا الفقه الجديد، إلى جيل يجمع بين حرارة الإيمان وهدوء الحكمة.
من البطولة إلى المشروع
لقد قدّم المقاومون ملحمة في الشجاعة والثبات، لكن التحدي الآن هو تحويل البطولة إلى مشروع وطني وفكري مستدام. فلا يمكن أن تبقى المقاومة فعل ردّة على العدوان فقط، بل يجب أن تتحول إلى منظومة وعي متكاملة، تُعيد تعريف علاقة الإنسان الفلسطيني بالأرض والحرية والكرامة.
إن المراجعة الفكرية ليست تراجعًا، بل تطورًا. فالأمم التي لا تراجع تجاربها تُعيد أخطاءها بأسماء جديدة.
في مرآة المفكرين
من خلال متابعتي لمدارس الفكر والسياسة عبر رموزها الكبار، تتقاطع دلالات غزة مع رؤاهم:
* جاسم سلطان يرى أن الإيمان الذي لا يتحول إلى مشروع يصبح طاقة غير مُدارة.
* عبدالله النفيسي ينبه إلى أن القضية لا تُحسم بالعاطفة، بل بالوعي الاستراتيجي الذي يُدرك موازين القوى.
* محمد حسنين هيكل لو كتب عن غزة اليوم لقال: لقد انتصرت أخلاقيًا، لكنها تحتاج إلى من يكتب روايتها قبل أن يكتبها الآخرون.
* من مدرسة كيسنجر وفريدمان، من لا يصوغ استراتيجيته سيُعاد تشكيله ضمن استراتيجيات الآخرين.
هذه المدارس، رغم اختلاف منطلقاتها، تلتقي على فكرة واحدة: أن الوعي هو المعركة الحقيقية المقبلة، وأن غزة لم تعد قضية حدود، بل قضية وعي أمّة.
غزة ما بعد الأسطورة: نحو مشروع النهضة الفكرية
اليوم، بعد أن انكشفت أقنعة العالم، لم يعد أمام غزة إلا طريق واحد: أن تبني وعيها قبل إعمارها. أن تتحول من رمز للصمود فقط إلى منارة للفكر والتحليل والمراجعة والتخطيط. ما بعد الحرب يجب أن يكون زمن العقل الجمعي، لا زمن الاندفاع الفردي.
إن مشروع النهضة في غزة هو مهمة الجيل الجديد، جيل وُلد في النار لكنه قادر أن يكتب قصة الوعي القادمة. كما قال مالك بن نبي: "كل حضارة تولد في رحم مأساة." وغزة اليوم رحم لميلاد وعي جديد سيغيّر المنطقة بأسرها.
كتابة:
محمد يوسف شامية
ابن غزة – شاهد على جراحها، وعاش الحرب فيها، ويحلم أن تكون غزة مدرسة في الوعي كما كانت ميدانًا في الصمود.
