بعد رحلة عميقة في تشخيص أمراض أهل الكتاب والكشف عن انحرافاتهم، ينتقل القرآن في هذا المقطع نقلة نوعية من "الجدل الخاص" إلى "النداء العام". فهذا المقطع ليس مجرد استمرار في الحجاج، بل هو "إعلان عالمي" و"بيان تأسيسي" لعصر جديد. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن "الآية العمود" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ...) ليست مجرد دعوة للإيمان، بل هي "حجر الأساس" لمشروع "تربية عالمية"، وكيف أنها تضع "الميزان القسط" الذي يوازن بين "الحجة" الدامغة و"الرحمة" المربية.
الآية العمود: "النداء العالمي" كإعلان عن فجر جديد
إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 11، الثمن 3) هي ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ اُ۬لرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَـَٔامِنُواْ خَيْراٗ لَّكُمْۖ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلهِ مَا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَلِيماً حَكِيماٗۖ﴾ (169)
فهي "نقطة التحول" التي تنقل الخطاب من "الخصوص" إلى "العموم"، وتعلن عن "عالمية الرسالة" الخاتمة. وهذا الانتقال، كما يوضح رشيد رضا رحمه الله، له منطقه الدعوي القائم على قياس الأولى، "لأن الحجة إذا قامت عليهم [أهل الكتاب]... فبالأولى تقوم على غيرهم". إنه إعلان بأن زمن الرسالات القومية قد انتهى، وبدأ زمن الرسالة العالمية للبشرية جمعاء.
"من ربكم": التربية كروح للرسالة العالمية
إن "عالمية" هذه الرسالة ليست "عالمية هيمنة"، بل هي "عالمية تربية ورحمة". وسر ذلك يكمن في اختيار لفظ "الرب". وكما يؤكد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره، فإن "اختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يصدق به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم، وتزكية نفوسهم". فالرسالة قادمة من "المربي" الذي يريد صلاح خلقه ونماءهم، لا من إله جبار بعيد. وهذا الفهم هو الذي يفسر لماذا كان الإيمان بهذا الحق هو خَيْرًا لَّكُمْ، لأنه استجابة لخطة التربية الإلهية التي تهدف إلى كمال الإنسان وسعادته.
"الغلو والاستنكاف": الموانع الداخلية لقبول الرسالة العالمية
إن "النداء العالمي" للإيمان بالرسول الحق لا يأتي في فراغ، بل هو يواجه "موانع" نفسية وعقدية متجذرة في نفوس المخاطبين، والقرآن يقوم بتشخيص هذه الموانع وهدمها تمهيدًا لقبول الحق. فالمشكلة ليست في "الحق" الجديد، بل في "الأمراض" القديمة التي تمنع القلب من رؤيته. أول هذه الموانع هو "الغلو"، حيث يخاطب القرآن أهل الكتاب مباشرة: ﴿يَٰٓأَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِے دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَي اَ۬للَّهِ إِلَّا اَ۬لْحَقَّۖ...﴾. فالغلو في تقديس المسيح ورفعه فوق منزلته البشرية كرسول، قد خلق "سقفًا نفسيًا" يمنعهم من قبول أي رسول يأتي بعده بنفس المنهج التوحيدي الذي يؤكد عبودية كل الرسل لله.
أما المانع الثاني، وهو أعمق وأخطر، فهو "الاستنكاف"، أي الترفع الناتج عن الكبر. والقرآن، بأسلوبه البديع، يرد على "كبر" هؤلاء بـ "تواضع" من غلوا فيه. ففي الوقت الذي يستكبرون هم فيه عن اتباع الرسول الجديد، يقرر القرآن الحقيقة الصادعة: ﴿لَّنْ يَّسْتَنكِفَ اَ۬لْمَسِيحُ أَنْ يَّكُونَ عَبْداٗ لِّلهِ وَلَا اَ۬لْمَلَٰٓئِكَةُ اُ۬لْمُقَرَّبُونَۖ وَمَنْ يَّسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمُۥٓ إِلَيْهِ جَمِيعاٗۖ﴾. فإذا كان المسيح نفسه، بكل عظمته، والملائكة المقربون، لا يستنكفون ولا يترفعون عن مقام "العبودية" لله، فبأي حق يستنكف ويستكبر من هم دونهم؟ ثم يأتي التهديد الحاسم: ﴿وَمَنْ يَّسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمُۥٓ إِلَيْهِ جَمِيعاٗۖ﴾.
من "الشهادة الكونية" إلى "الشهادة الإيمانية"
أمام هذا "النداء العالمي"، وبعد "هدم" موانع الغلو والاستكبار، يقدم القرآن "خارطة طريق" واضحة للاستجابة الصحيحة، ويبين ثمرتها.
إن "مصداقية" هذه الرسالة ليست قائمة على "الحجة" العقلية فقط، بل هي مدعومة بـ "شهادة" عالم الغيب: ﴿لَّٰكِنِ اِ۬للَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِۦ وَالْمَلَٰٓئِكَةُ يَشْهَدُونَۖ وَكَف۪يٰ بِاللَّهِ شَهِيداًۖ﴾. وهذه "الشهادة" الكونية العظمى تتجلى وتتجدد في واقع المؤمنين. فمجالس الذكر التي يُتلى فيها القرآن هي "محافل مشهودة" "تحفها الملائكة"، وكأن حضورهم هو "تجديد" لهذه الشهادة الكبرى في كل زمان ومكان، مما يربط "التجربة الإيمانية" في مجالس الذكر بـ "الحقيقة الكونية" الكبرى.
الخاتمة: من التربية إلى المسؤولية
إن "الرسالة العالمية" ليست مجرد "خبر"، بل هي "مشروع تربوي" متكامل، له "حجته" الدامغة، و"روحه" المربية، و"شهادته" الكونية. إن "الناهض" الذي يستوعب "عالمية" هذه التربية، يدرك أن عليه "مسؤولية" عالمية. فهو ليس مسؤولاً عن "هداية" نفسه فقط، بل هو مسؤول عن "حمل" هذا "الخير" (خَيْرًا لَّكُمْ) إلى "الناس" كافة، ليكون شاهدًا لهذا "الحق" الذي جاء من "رب العالمين".
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
