استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

من دمعِ الخشوع إلى سعيِ التمكين : في تصحيح مفهوم الصلاح وتحرير مفهوم الزهد



في مطلع الحزب الثالث عشر من سورة المائدة، يرسم القرآن مشهداً مؤثراً لنفوس فاضت أعينها بالدمع حين سمعت الحق. لكن القرآن، بمنهجه الواقعي، لا يريد لهذه الرقة أن تتحول إلى هروب من الحياة، ولا لهذا الخشوع أن ينقلب إلى رهبانية تحرم الطيبات. هذا المقال يتناول الآيات (من84 إلى 91) بوصفها منهجاً متكاملاً للعبور من صومعة العاطفة إلى ميدان التمكين، مبيناً أن اللقمة الحلال والسعي في الأرض هما البرهان العملي على صدق الدمع، وأن الصلاح الحقيقي هو انخراط في اقتصاد الحياة لا انسحاب منه.

الآية العمود: حتمية المسار.. طريق واحد لا ثاني له


إن الآية التي تمسك بزمام هذا المقطع، وتوجه دفة السلوك فيه، هي قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُومِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ اَ۬لْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُّدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ اَ۬لْقَوْمِ اِ۬لصَّٰلِحِينَۖ﴾ (86)

هذه الآية تمثل نقطة الحسم؛ فهي تنقل الإنسان من مجرد التأثر العاطفي (الدمع) إلى اتخاذ موقف عقدي وحركي صارم.
ويعلق الإمام القشيري رحمه الله على هذه الحالة النفسية التي لا تقبل التردد قائلاً:
«وأي عذر لنا في التعريج في أوطان الارتياب، وقد تجلَّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حُسْنِ العاقبة...»
فالآية تقرر منطق الفطرة: حين يتجلى الحق، يصبح التعريج (التلكؤ) في مناطق الشك عبثاً لا عذر فيه.

ولكن، ما طبيعة هذا الإيمان الذي أعلنوه؟ يجيبنا سيد قطب رحمه الله في ظلاله، مبيناً أن هذه الآية تؤسس لـ شهادة عملية لا قولية فحسب، فيقول:
«فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق.. موقف الاستماع والمعرفة، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله -سبحانه- أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكا وعملا وجهادا لإقراره في الأرض، والتمكين له في حياة الناس... بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد: هو طريق الإيمان بالله...»
إذن، الآية العمود تضعنا على طريق التمكين للحق في حياة الناس، وهذا يتطلب قوة وسعياً، لا مجرد دموع في المحاريب.

تصحيح مفهوم الصلاح: ضد الرهبانية المبتدعة


إن الطمع في مرافقة ﴿الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ يقتضي معرفة من هم؟ حتى لا نخطئ العنوان. ينقل الطبري عن ابن زيد قوله في تفسير القوم الصالحين: «رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه»
وبما أن النموذج هو الصحابة، فإن السلوك الرهباني الذي يميل إلى تحريم الحياة مرفوض؛ ولذلك جاءت الآية حازمة: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
ويؤكد الطبري هذا المعنى بسياق النزول، فيقول:
«عن ابن عباس، قال: لما نزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ} في القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم على أنفسهم... فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم»
إن تحريم الطيبات ليس ورعاً كما تظن النفس، بل سماه القرآن ﴿اعْتِدَاء﴾؛ لأنه اعتداء على فطرة الإنسان، واعتداء على مراد الله في إعمار الكون.

اقتصاد الشهادة : اللقمة الطيبة كبرهان


تنتقل الآيات من النهي عن التحريم إلى الأمر المباشر في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ . وهذا الأمر لا يقتصر على الإذن البيولوجي بالأكل، بل هو أمر بـ السعي الاقتصادي.
فالشهادة التي تحدث عنها سيد قطب (إقرار الحق في الأرض) لا تقوم بها أجساد هزيلة ولا أيدٍ عاطلة. إن اللقمة الحلال هي مركز اقتصاد المجتمع المسلم، وهي الوقود الذي يضمن استقلال الناهض وقدرته على التأثير. فالورع الحقيقي هو في تحري الحلال أثناء الكسب، لا في ترك الكسب والانسحاب من السوق.

تشريع العودة: الكفارة لكسر حصار الأيمان


تُختتم منظومة التصحيح بآية قد تبدو فرعية، لكنها في هذا السياق جوهرية: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ...﴾.
هذه الآية جاءت لتفك القيود (الأيمان) التي ألزم بها البعض أنفسهم بترك الطيبات. إنها تشريع العودة إلى الحياة. فالله لا يرضى لعباده أن يُحاصروا أنفسهم ويُجمدوا طاقاتهم باسم الدين.
والمدهش أن المخرج (الكفارة) جاء بصبغة اقتصادية اجتماعية: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾. وكأن القرآن يقول: إن كنت تريد التكفير عن انعزالك وتركك للطيبات، فعد إلى السوق، واكسب، وأنفق على المساكين. فالكفارة هنا هي كسر لحصار الاقتصاد الطيب، وتحريك لعجلة التكافل، بدلاً من تجميد الثروة والاستهلاك في زوايا الرهبانية.

الخاتمة: التوازن الصعب


إن الناهض هو ذلك الإنسان المتوازن: عيناه تفيضان من الدمع خشوعاً عند سماع الحق (تأسياً ببدء المقطع)، ويداه تمتدان إلى الطيبات كسباً وإنفاقاً لتمكين الحق (امتثالاً لختم المقطع). ذلك هو الطريق الوحيد ليكون حقاً مع القوم الصالحين.




كتب حسان الحميني،
والله الموفق.


تعقيب:


روعة حقا ماشاء الله عليكم 

ما سميت سورة،، إلا لكونها ك"السوار" حول محور كبير ما !!

ولذلك ،، لن تخيبنا أي سورة ما سلم إدراكنا لذلكم المحور الكبير الناظم لكل آياتها!!

فها هي سورة المواثيق والعهود ، تواصل معالجة العهود ومنها "الأيمان " حين تعقد هذه خطأ !!

كهؤلاء الذين أغلظوا الايمان ألا يأكلوا طعاما معينا أو ألا يستجيبوا لنداء من نداءات الفطرة !!

ماذا سيكون الرد الرباني في سورة الأيمان والمواثيق والعهود!!؟؟

وقد علمنا أن العهود والمواثيق هي ما ترقبه السنن في الانفس واجتماعها وتاريخ سعيها!!

أتتركهم يحلفون على أمور تناقض السنن!!؟؟

أبدا..

وياله من تفسير لافت من أستاذنا حسان الحميني، حين فطن الى كيفية معالجة السورة لهذه "الأيمان " الخاطئة!!

أن أذهبوا الى السوق
لا الصومعة!!

ثم انظروا كيف وضعت في السورة قصة قوم قدموا الى الحق من خلفية رهبانية بالغت في تبني المفهوم الخاطئ للصلاح!!

فجعلتهم نموذجا للبلاغ والتبين معا

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.