استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

هندسة الدعوة : المقال 2: من حماس النية إلى حكمة المنهج : "حماس الأخت حليمة وصدمتها: عندما لا تكفي النوايا الطيبة"



في قلب كل عمل دعوي أو تربوي أو إصلاحي، تكمن شعلة مباركة من الحماس والنية الطيبة. إنها الرغبة الصادقة في رؤية الخير ينتشر، والحق يتبع، والناس يقتربون من ربهم. هذه النية هي أساس العمل وأصل قبوله عند الله، لكن هل هي وحدها كافية لضمان نجاحه وتأثيره في واقع إنساني معقد؟

كثيرًا ما ننطلق بحماس كبير نحو هدف دعوي نراه واضحًا وجليًا، مسلحين بأدلة نظنها قاطعة، لنتفاجأ بردود فعل غير متوقعة أو بجدار من المقاومة لم يكن في الحسبان. هذه الصدمة، وإن كانت مؤلمة، قد تكون هي المنطلق لتعلم أعمق والارتقاء من مستوى "حماس النية" إلى مستوى "حكمة المنهج".

هذه السلسلة التطبيقية الجديدة ستتناول دراسة حالة افتراضية، لكنها شديدة الواقعية، لنرى كيف يمكن لـ "هندسة المفاهيم" أن تساعدنا على فهم أسباب فشل المداخل الدعوية التقليدية، وكيف ترشدنا لتصميم مداخل أكثر حكمة وبصيرة. لنبدأ مع قصة الأخت الفاضلة "حليمة".

الوضعية: حماس حليمة وجارتها الجديدة

في حي هادئ، تنشط الأخت "حليمة"، وهي سيدة فاضلة، غيورة على دينها، ومحبة للدعوة إلى الله. لاحظت حليمة أن جارتها الجديدة التي انتقلت مؤخرًا إلى الحي تمتاز بصفات رائعة؛ فهي ذات أخلاق عالية، بشوشة الوجه، لطيفة المعشر، ومحبة للمساعدة. لكن هناك أمرًا واحدًا كان يقلق حليمة: جارتها متبرجة لا ترتدي الحجاب الشرعي.

انطلاقًا من محبتها للخير لجارتها، تحمست حليمة لدعوتها، وحددت لنفسها هدفًا دعويًا واضحًا ومباشرًا: إقناع جارتها بارتداء الحجاب.

المحاولة الأولى: المدخل المعلوماتي المباشر

بناءً على هذا الهدف، قامت حليمة بخطوات بدت لها منطقية وسليمة:

تشخيص أولي (افتراضي): افترضت حليمة أن سبب عدم ارتداء جارتها للحجاب يعود على الأرجح إلى أحد سببين شائعين: إما الجهل بالأدلة الشرعية التي توجب الحجاب، أو عدم القدرة المادية على شرائه.

الوسيلة الأولى (العلاج المعرفي): بناءً على فرضية "الجهل"، أهدت حليمة لجارتها مجموعة من الكتب القيمة والموثوقة التي تفصل في موضوع الحجاب وأدلته الشرعية، مثل كتاب "حجاب المرأة المسلمة" للشيخ الألباني، و"الحجاب" للمودودي، وغيرها من الكتب ذات الشأن.

الوسيلة الثانية (العلاج المادي): بناءً على فرضية "عدم القدرة"، فكرت حليمة جديًا في الخطوة التالية، وهي أن تشتري لجارتها حجابًا أنيقًا وجميلاً وتهديه لها كبادرة محبة وتشجيع.

كانت حليمة تنتظر بثقة وترقب أن تؤتي هذه الجهود ثمارها، وأن ترى جارتها وقد استجابت لهذه الدعوة الصادقة.

الصدمة: انهيار التشخيص الأولي

قبل أن تقدم حليمة على خطوة إهداء الحجاب، وخلال حديث عابر مع جارتها، اكتشفت ما كان بمثابة صدمة حقيقية لها:

المفاجأة الأولى: جارتها ليست جاهلة على الإطلاق، بل هي خريجة جامعية متخصصة في الشريعة الإسلامية!

المفاجأة الثانية: جارتها ليست معسرة ماديًا، بل هي ميسورة الحال وقادرة على شراء ما تشاء من الثياب.

هنا، انهار التشخيص الأولي الذي بنت عليه حليمة خطتها الدعوية بأكملها. لقد أدركت أن المشكلة ليست في نقص "المعلومة" ولا في نقص "القدرة". الوسائل التي استخدمتها (الكتب) ربما بدت في غير محلها تمامًا، بل وقد تكون قد أوصلت رسالة ضمنية خاطئة ("أنتِ جاهلة وتحتاجين لمن يعلمكِ").

الإشكالية المطروحة: ما وراء فشل النوايا الطيبة؟

توقفت حليمة في حيرة. نيتها كانت صادقة، وحماسها كان مباركًا، ووسائلها كانت كتبًا لعظماء العلماء. فلماذا فشل مدخلها الأول بشكل ذريع حتى قبل أن يكتمل؟ وما الذي يجب عليها أن تعيد التفكير فيه إذا أرادت أن تحاول مرة أخرى بأسلوب أكثر حكمة وفعالية؟

إن حالة حليمة هي حالة الكثيرين منا. إنها تكشف عن حدود "المدخل المعلوماتي" المباشر، وتدعونا للغوص أعمق. تدعونا لننتقل من التفكير في "السلوك الظاهري" (عدم ارتداء الحجاب) إلى محاولة فهم "الشبكة المفاهيمية" المعقدة التي قد تكون وراء هذا السلوك.

في المقال التالي، سنبدأ بمساعدة حليمة في هذه المهمة: تفكيك الشبكة المفاهيمية المحتملة لجارتها كخطوة أولى نحو تصميم مدخل دعوي جديد قائم على البصيرة والفهم.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.