استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الجماعات الوسيطة: حلٌّ إسلامي أصيل لبناء مجتمع نهضوي


المجتمع القوي بين السيطرة والتمكين
يتكرر في النقاشات الفكرية والسياسية سؤال: ما هو المجتمع القوي؟ وهل بناء الدولة الحديثة يقتضي السيطرة عليه، أم تمكينه؟
وللإجابة الحقيقية، لا بد من النظر إلى نماذج عالمية معاصرة مثل الولايات المتحدة والهند وإسرائيل، قبل العودة إلى تجربة محمد علي باشا، لفهم كيف قوّى أو أضعف المجتمع.

أولًا: تعريف المجتمع القوي

المجتمع القوي هو المجتمع الذي يمتلك شبكة ضخمة من المؤسسات المستقلة، المدنية والخيرية والاقتصادية والثقافية والنقابية، بحيث تشكل هذه المؤسسات «طبقة عازلة» بين الدولة والفرد، وتحمي المجتمع من الاستبداد وتدعم المشاركة.
يكون المجتمع قويًا عندما يستطيع:
* تنظيم نفسه دون مركزية خانقة.
* إنتاج مؤسسات أهلية فاعلة.
* مراقبة السلطة سياسيًا وإعلاميًا.
* دعم أفراده اجتماعيًا واقتصاديًا.
* مواجهة الفساد عبر الشفافية والمساءلة.
هذا المجتمع لا يضعف الدولة، بل يقوّيها، لأن قوة الدولة الحقيقية تأتي من المجتمع الحيّ.

ثانيًا: أمثلة مجتمعات قوية اليوم

لندخل مباشرة إلى الأرقام، فهي التي تُظهر الفرق بين مجتمعٍ ممكّن وآخر مُسيطَر عليه.

1. الولايات المتحدة: نموذج المجتمع شديد القوة
في أمريكا يوجد ما يزيد عن مليون مؤسسة خيرية ومدنية مستقلة (Nonprofits).
مليون مؤسسة في بلد نحو 330 مليون نسمة.
يعني:
* مؤسسة مستقلة لكل 330 شخصًا فقط تقريبًا.
* وهذا يعني تواجدًا كثيفًا للمؤسسات في كل حيّ، وكل مدينة، وكل قطاع.
هذه المؤسسات تساهم في:
* التعليم
* الصحة
* البحث العلمي
* حقوق الإنسان
* حماية البيئة
* رعاية الفقراء
* مواجهة الكوارث
* مراقبة الحكومة
هذه القوة المجتمعية هي أحد أسرار قوة أمريكا، بغضّ النظر عن أية خلافات داخلية.

2. الهند: مجتمع شديد الاتساع بالمؤسسات
الهند أيضًا تمتلك أكثر من مليون مؤسسة خيرية ومدنية، ولكن عدد سكانها يفوق 1.4 مليار.
هذا يعني مؤسسة لكل 1400 شخص تقريبًا.
ورغم ضعف البنية التحتية الحكومية، إلا أن المجتمع الهندي «حيّ» ومتنوع، وقادر على المبادرة، وهو ما دعَم النهضة الاقتصادية الهندية رغم ضخامة السكان.

3. إسرائيل: مجتمع صغير لكنه قوي للغاية
في إسرائيل (حوالي 9 ملايين نسمة فقط) يوجد أكثر من 45 ألف مؤسسة وجمعية.
يعني:
* مؤسسة واحدة لكل 200 شخص تقريبًا.
* وهذه أعلى كثافة مؤسسات مدنية في العالم.
هذه المؤسسات:
* تقدم خدمات تعليمية متقدمة.
* تمارس رقابة شديدة على الحكومة.
* تدعم البحث العلمي والابتكار.
* تقوي اللحمة الداخلية.
* توفر حماية للمجتمع بعيدًا عن الدولة.
لهذا يعتبر المجتمع الإسرائيلي—رغم صغر حجمه—من أقوى المجتمعات المؤسسية عالميًا.

ثالثًا: وماذا عن مصر؟

مصر لديها قرابة 50 ألف جمعية مسجلة، لكن:
* عدد السكان أكثر من 110 ملايين.
* أي: مؤسسة لكل 2200 شخص تقريبًا.
* والغالبية ليست مستقلة، وتعاني من القيود البيروقراطية.
إضافة إلى ذلك:
* غياب الشفافية.
* ضعف التمويل.
* عدم السماح للمجتمع المدني في كثير من الأحيان بالتحرك الحقيقي.
وهذا يجعل المجتمع المصري أضعف كثيرًا من المجتمعين الأميركي والإسرائيلي، وأقل ديناميكية من المجتمع الهندي.

رابعًا: هل المطلوب السيطرة على المجتمع أم تمكينه؟

الدول المستبدة ترى أن السيطرة على المجتمع هي ضمان القوة.
أما الدول الناهضة، فتفهم أن قوة الدولة لا تتحقق إلا من خلال قوة المجتمع.
السيطرة تنتج:
* مجتمعًا خائفًا
* مؤسسات مشلولة
* إعلامًا تابعًا
* تعليمًا ضعيفًا
* اقتصادًا بلا تنافسية
بينما التمكين ينتج:
* مجتمعًا حيًا
* مؤسسات مستقلة
* رقابة فعّالة
* شفافية
* فصل سلطات
* حماية للدولة نفسها من السقوط

خامسًا: مثال محمد علي باشا: الدولة القوية مقابل المجتمع الضعيف

قبل محمد علي كان في مصر والعالم الإسلامي وجود قوي لما يسمى الجماعات الوسيطة:
* الأزهر
* النقابات (الطوائف)
* الأوقاف
* التجار
* العشائر
* الطرق والزوايا
* مؤسسات التعليم الأهلي
هذه الجماعات كانت تمثل «طبقة حماية» للمجتمع.
لكن محمد علي قام بتفكيكها بالكامل لبناء دولة مركزية شديدة القوة:
* صادر الأوقاف
* حل النقابات
* وضع العلماء تحت سلطة الدولة
* احتكر التجارة
* سيطر على التعليم
* جرّد الأزهر من استقلاله
فأصبح المجتمع ضعيفًا والدولة قوية.
لكن هذه «القوة» لم تستمر.
لأنها قائمة على قوة السلطة لا قوة المجتمع.
وحين مرض المركز، انهار كل شيء.

سادسًا: الدرس النهائي

* أمريكا قوية لأن مجتمعها قوي.
* الهند تتقدم رغم الفقر لأن مجتمعها حيّ.
* إسرائيل قوية سياسيًا وتقنيًا لأنها امتلكت مؤسسات أكثر من حجمها الحقيقي.
* ومصر تعاني لأن المجتمع أضعف بكثير من الدولة.
النهضة الحقيقية = مجتمع قوي + دولة قوية + مؤسسات مستقلة + شفافية + فصل سلطات.
ليس المطلوب السيطرة على المجتمع، بل تمكين المجتمع، لأن المجتمع إذا ضعف انهارت الدولة، أما إذا قوي، قويت الدولة تلقائيًا.


د.سامر الجنيدي_القدس

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.