في هذا المقطع المكي من سورة الأنعام، يرسم القرآن خريطة الخروج من حيرة الشرك إلى يقين التوحيد. الرحلة تبدأ بمفارقة صارخة بين مشهدين: مشهد قوم اتخذوا دينهم ﴿لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ فتاهوا في الأرض حيارى، ومشهد نبي (إبراهيم عليه السلام) استخدم الشك المنهجي ليحاكم الآلهة، حتى وصل إلى القرار الاستراتيجي الحاسم: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾. هذا المقال يقرأ في هندسة اليقين الإبراهيمي، وكيف يتحرر العقل من جمود التقليد ليدور مع الحق حيث دار.
الآية العمود: القرار الاستراتيجي.. ضبط جهاز الاستقبال
إن الآية التي تمثل ذروة السنام في هذا المقطع، وتلخص نتيجة الرحلة العقلية، هي قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (80).
لماذا الوجه تحديداً؟ يحرر المراغي رحمه الله هذا المعنى قائلاً: «وعبر عنه به [أي بالوجه] لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال أو الإعراض... وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده في طلب حاجته وإخلاص عبوديته».
وإذا أضفنا إلى ذلك ما كشفه العلم الحديث عن خلايا المرآة، ندرك أن الوجه هو مساحة التماس والتواصل العاطفي. فتوجيه إبراهيم لوجهه كلياً للفاطر يعني توجيه جهاز الاستقبال الشعوري لديه نحو المصدر الحقيقي، وقطع الاتصال عن المشركين وعن آلهتهم الصامتة. إنه قرار بالتركيز المطلق في عالم يضج بالتشتت.
منهجية النظر: محاكاة التجربة للوصول لليقين
لم يقدم القرآن التوحيد هنا كأمر جاف، بل عرض فيلم التجربة الإبراهيمية كاملاً: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا...﴾.
هذا العرض التفصيلي (رؤية، إعجاب، أفول، خيبة أمل، براءة) يستهدف تفعيل خلايا المرآة عند القارئ (والمكي قديماً)، ليجعله يعيش تجربة إبراهيم شعورياً، ويحاكي مسار تفكيره، ليصل معه إلى نفس النتيجة: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾.
إنها دعوة لمحاكمة أصنام العصر (مال، سلطة، شهرة) بنفس المعيار: هل هي ثابتة أم آفلة؟ وبما أنها تتغير وتزول، فهي لا تستحق أن نوجه وجوهنا إليها.
هندسة العقل الحنيف: المرونة ضد الجمود
النتيجة التي وصل إليها إبراهيم هي أنه أصبح ﴿حَنِيفًا﴾. فما معنى الحنيفية؟
يقدم الإمام البقاعي رحمه الله تعريفاً مذهلاً يربط الحنيفية بالمرونة العقلية، فيقول: «حنيفاً: أي سهلاً هيناً ليناً لطيفاً ميالاً مع الدليل... غير كزّ جاف جامد على التقليد دأب الغليظ البليد».
فالناهض (الحنيف) يمتلك عقلاً مرناً، يدور مع الدليل، ويقبل الحق بيسر. أما المشرك (أو المتعصب) فهو كزّ جاف، عقله متكلس لا يتحرك. فالتوحيد يورث مرونة عقلية وانشراحاً، بينما يورث الشرك جموداً وغلظة.
تحرير الأسباب: إسقاط الأرباب المزيفة
لكن، ما الذي جعل قوم إبراهيم يعبدون الكواكب أصلاً؟ يشرح المراغي الجذر الفكري للوثنية قائلاً: «إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات... اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي في الأرض».
لقد خلطوا بين السبب (الشمس كمصدر طاقة) وبين الرب (المدبر). وجاء إبراهيم ليحرر البشرية من هذا الوهم، ويعيد الكواكب إلى حجمها الطبيعي كآيات مسخرة تخدم الإنسان ولا تتحكم فيه. وهذا التحرير هو حجر الزاوية في بناء العقل العلمي والكرامة الإنسانية.
الخاتمة: وما أنا من المشركين
بعد رحلة البحث، وتفنيد الآلهة المتغيرة، تأتي لحظة المفاصلة الشعورية: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
يعلق البقاعي على هذا الختام بقوله: «أي لا أعد في عدادكم بشيء أقاربكم به».
إنها براءة تامة من منهج الجمود والتقليد وتقديس الأسباب، وانحياز كامل لمنهج الفاطر الذي لا يغيب.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
