استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

عزاءُ المصلحين : فك الارتباط بين "الذات" و "النتيجة"


في هذا المقطع من سورة الأنعام، يعالج القرآن أزمة نفسية عميقة تواجه كل مصلح صادق : أزمة "الحزن على عدم الاستجابة". إن الناهض، لفرط رحمته، قد يدمج ذاته بالرسالة لدرجة أنه يرى إعراض الناس "فشلاً شخصياً" له، أو يتألم لمصيرهم المحتوم ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ حدَّ أن يهلك نفسه حسرات، وكذلك حين يراهم ينؤون عنه وينهون عنه آي يصدون غيرهم، هنا يتدخل القرآن ليفك هذا الارتباط، ويصحح وعي الداعية بأن المعركة ليست معركته الشخصية، وأن "الإعراض" ليس طعناً في كفاءته، بل هو حرب مع الله.

*الآية العمود: المواساة الإلهية.. "لستَ أنت المقصود"*

إن الآية التي تمسح على قلب النبي ﷺ (وقلب كل مصلح)، وتضع "قانون العزاء"، هي قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُۥ لَيُحْزِنُكَ اَ۬لذِے يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَكَ وَلَٰكِنَّ اَ۬لظَّٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ اِ۬للَّهِ يَجْحَدُونَۖ﴾ (34)
تبدأ الآية بـ "المواساة" قبل "التوجيه"، فالله يقر بألم عبده ويعلمه. ويعلق الشيخ المكي الناصري رحمه الله على هذا البعد التربوي والنفسي في الآية قائلاً:
«فإن السياق مناسب كل المناسبة لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولتثبيت فؤاده على الحق، ولمواساته على ما يصيبه من أذى بالغ في سبيل الله، وهكذا يتجه الخطاب الإلهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة... وهكذا يكشف الحق سبحانه وتعالى عن حقيقة كبرى، ألا وهي أن خصوم الرسالة المحمدية لا يعتقدون أن الرسول كاذب غير صادق... بل إنهم ليؤمنون بصدق الرسالة في قرارة أنفسهم».
إن إدراك هذه الحقيقة يحرر الناهض من "عقدة الذنب"؛ فالرفض ليس موجهاً لشخصك، فلا تبتئس.

تشريح الرفض : إنه "جحود" لا "جهل"

إذا كانوا يعلمون صدق الرسول، فلماذا يكفرون؟ هنا يصحح القرآن التشخيص : العلة ليست في "العقل" (نقص البراهين)، بل في "الإرادة" (الجحود).
ويحرر البيضاوي رحمه الله هذا المعنى لغوياً ببراعة، فيقول في تفسير ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾:
«{فإنهم لا يكذبونك} في الحقيقة... وقرأ نافع والكسائي {لا يكذبونك} من أكذبه إذا وجده كاذبا... {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب».
البيضاوي يوضح أنهم "لا يجدونك كاذباً" في الحقيقة. هذا الوعي يوفر على الناهض جهداً هائلاً؛ فلا ترهق نفسك في البحث عن حجج جديدة لمن يعرف الحقيقة وينكرها كبراً، فمشكلتهم ليست معرفية، بل أخلاقية (ظلم وجحود).

الدوافع الخفية: "صراع السلطان" لا "صراع الأفكار"

ولكن، ما الذي يدفعهم لهذا الجحود الانتحاري؟ يكشف لنا التاريخ، عبر شاهد يرويه *سيد قطب* نقلاً عن ابن إسحاق، عن "المحرك الحقيقي" للكفر، وهو "المنافسة الدنيوية".
ففي قصة خروج صناديد قريش (أبي جهل، وأبي سفيان، والأخنس) ثلاث ليالٍ متتالية يستمعون القرآن سراً، دليلٌ على جاذبية الحق لفطرتهم. لكن المصيبة ظهرت في اعتراف أبي جهل الصريح حين سُئل عن رأيه، فقال:
«تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا... حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!».
هذا الاعتراف الصادم يعزي المصلحين: إن بضاعتكم غالية، والحق الذي معكم ساطع، لكن الزبون رفض الشراء خوفاً على "كرسيه" ومكانة قبيلته. إنها معركة نفوذ، تستروا فيها برداء العقيدة.

إدارة المعركة: الإحسان يبرئ الذمة

أمام هذا الجحود، ما هو دور الناهض؟ دوره هو "تحييد ذاته" عن طريق "الإحسان في البلاغ".
فحين يقتدي الداعية بالنبي ﷺ في الصدق والأمانة والرحمة، فإنه يسد كل الثغرات التي قد يتذرع بها الخصوم، ويجعلهم عرايا أمام "جحودهم". حينها، تخرج "ذات الداعية" من المعادلة، وتصبح المواجهة صافية مباشرة بين "الجاحد" وبين "الله".
وهنا ينتقل الناهض من مربع "الحزن" ﴿لَيَحْزُنُكَ﴾ إلى مربع "الصبر" وانتظار السنن ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾. فالنصر ليس وليد المعجزات القهرية، بل وليد الصبر على استفزاز الجاحدين.

الخاتمة: السكينة في فهم السنن

إن الحزن على الخلق رحمة، ولكن الاستسلام له جهل بسنن الله في الابتلاء والاختيار ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. عزاؤك أيها الناهض أنك أديت الأمانة، وأنهم في قرارة أنفسهم يصدقونك، ولكنهم بارزوا الله بالجحود، ومن غالب الله غُلب.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.