استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مِنْ تَكَلُّسِ المَفاهيمِ إلى انشراحِ الصُدور: القُرآنُ يَرسِمُ طريقَ النُورِ للناهِض

مقدمة: بينَ الجُمودِ الفِكريِّ وحَياةِ القَلب

في مسيرةِ الأفرادِ والمُجتمعاتِ نحو التغييرِ والإصلاح، يبرُزُ تحدٍّ جوهريٌّ يتمثّلُ في كيفيةِ التعامُلِ مع المفاهيمِ والأفكار. فكثيرًا ما يُصابُ الإنسانُ أو تُصابُ الأُمّةُ بحالةٍ من "الخوفِ مِنَ التغيير"، ممّا يُؤدّي إلى "تَكَلُّسِ المفاهيمِ وتحجُّرِها"، فتَفقِدُ هذهِ المفاهيمُ حيويّتَها وقُدرتَها على التفاعُلِ مع الواقِعِ المُتغيِّرِ والاستجابةِ لتحدّياتِه. هذا الجُمودُ الفِكريُّ والقَلبيُّ يُصبِحُ عائِقًا حقيقيًّا أمامَ أيِّ محاولةٍ جادّةٍ للنهوض. ولكن، كيفَ يُمكِنُ ضخُّ "دماءٍ مُتجدِّدةٍ" في هذهِ المفاهيمِ لتستعيدَ حياتَها؟ لا بُدَّ لهذهِ الدماءِ أنْ تُمتحَ مِنْ "مَنبعٍ ثريٍّ" يَمُدُّها بمعنى الحياة. والقُرآنُ الكريمُ، هذا المَنبعُ الصافي، يُقدِّمُ لنا في سورةِ الزُمَر علاجًا شافيًا لهذهِ الحالة، ويَرسِمُ طريقَ النورِ لِمَنْ أرادَ أنْ يتجاوَزَ ظُلُماتِ الجُمودِ إلى رحابِ الانشراحِ والهداية.

آياتٌ كَونيةٌ.. وذِكرى لأُولي الألباب (الزُمَر: 20)

يُمهِّدُ القُرآنُ لهذهِ القضيّةِ بدعوةٍ للتفكُّرِ في آياتِ الكونِ الناطِقةِ بقدرةِ اللهِ وحِكمتِه، فيقولُ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾. هذا المَثَلُ البديعُ لدورةِ حياةِ النبات، مِنْ حياةٍ واخضِرارٍ إلى هَياجٍ واصفِرارٍ ثمَّ فناءٍ ليُصبِحَ حُطامًا، ليسَ مُجرّدَ وصْفٍ للطبيعة، بل هو "ذِكرى لأُولي الألباب" تُمهِّدُ لفَهْمِ حياةِ القُلوبِ وموتِها، وكيفَ أنَّ "الماءَ" النازِلَ مِنَ السماءِ (الوَحي) هو الذي يُحيي القُلوبَ كما يُحيي الماءُ الأرض.

شَرحُ الصَدرِ للإسلامِ.. نورٌ مِنَ الله (الزُمَر: 21)

ثمَّ تأتي الآيةُ المِحوريّةُ لتُقارِنَ بينَ حالتيْنِ مُتضادّتيْنِ للقَلبِ في تعامُلِهِ مع هذا الوَحي:
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.

الفريقُ الأوّل: مَنْ شُرِحَ صدرُهُ: "شرحُ الصدرِ للإسلام" هو اتّساعُ القَلبِ وانفتاحُهُ لقَبولِ الحقِّ والاستسلامِ لهُ دونَ ضيقٍ أو حرَج. وكما أوضحَ الإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ الله، هذا الانشراحُ يعني "الانقيادَ للدليل، فكانَ قلبُهُ ليِّنًا فانقادَ للإيمانِ فاهتدى لباطِنِ هذا الدليل". وثمرةُ هذا الانشراحِ هي أنْ يكونَ صاحِبُهُ "عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ"؛ نورِ الهدايةِ والبصيرةِ الذي يُبدِّدُ ظُلُماتِ الجهلِ والشُبُهات. هذا النورُ، كما فسّرَ الإمامُ ابنُ عاشورٍ رحمهُ الله، "مُستعارٌ للهُدى ووُضوحِ الحقِّ؛ لأنَّ النورَ بهِ تنجلي الأشياءُ ويخرُجُ المُبصِرُ مِنْ غياهِبِ الضلالةِ وتردُّدِ اللُبْسِ بينَ الحقائِقِ والأشباح".

الفريقُ الثاني: القاسيةُ قُلوبُهم: وفي المُقابِل، يقِفُ أصحابُ القُلوبِ القاسيةِ التي أعرضتْ عن "ذِكرِ اللهِ" فلم تتأثّرْ بهِ ولم تلِنْ له. هذهِ القسوةُ، كما أشارَ الإمامُ الآلوسيُّ رحمهُ الله، هي أشدُّ مِنْ مُجرّدِ الضِيق، فهي كـ*"الصخرةِ الصمّاءِ تقتضي عدَمَ قَبولِ شيء"*. ويُحذِّرُ القُرآنُ مِنْ مَصيرِ هؤلاءِ بالوَيْلِ والضلالِ المُبين. وإنَّما تقسو قُلوبُهم مِنْ ذِكرِ اللهِ نفسِهِ الذي مِنْ شأنِهِ أنْ يُليِّنَ القُلوب، وذلكَ بسببِ ما ترسّخَ فيها مِنْ أمراضٍ كالعِنادِ والمُكابَرةِ والكِبر، كما فصّلَ ابنُ عاشورٍ بقولِهِ: "فذِكرُ اللهِ سببٌ في لِينِ القُلوبِ وإشراقِها إذا كانتِ القُلوبُ سليمةً مِنْ مرَضِ العِنادِ والمُكابَرةِ والكِبر، فإذا حلَّ فيها هذا المرَضُ صارتْ إذا ذُكِرَ اللهُ عندَها أشدَّ مرَضًا ممّا كانتْ عليهِ...".

القُرآنُ.. أحسنُ الحديثِ وتأثيرُهُ في القُلوب (الزُمَر: 22)

يُبيِّنُ القُرآنُ بعدَ ذلكَ أنَّ مَصدرَ هذا النورِ وهذهِ الهِدايةِ هو "أحسنُ الحديثِ"، كتابُ اللهِ تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ...﴾. فهذا الكتابُ هو الذي يتفاعَلُ معهُ أصحابُ القُلوبِ الحيّةِ الخاشِعة، فتَقشَعِرُّ جُلودُهم هيبةً وإجلالًا، ثمَّ تلينُ قُلوبُهم طمأنينةً وسكينةً لِذِكرِ الله. وكما قالَ سيد قطبٍ رحمهُ الله، القُرآنُ "تتلقّاهُ القُلوبُ الحيّة؛ فتتفتّحُ وتنشَرِحُ وتتحرّكُ حركةَ الحياة... وتتلقّاهُ القُلوبُ القاسيةُ كما تتلقّاهُ الصخرةُ القاسيةُ التي لا حياةَ فيها ولا نداوة!".

التنوُّعُ سُنّةٌ.. والعِلمُ طريقُ الخشيةِ وفِقهُ الاختلاف

إنَّ هذا التفاوتَ في استجابةِ القُلوبِ للوَحيِ يُعيدُنا إلى ما ذُكِرَ في بدايةِ السياقِ مِنْ اختلافِ ألوانِ الثمراتِ والجِبالِ والناس، وإلى ما ورَدَ في آياتٍ أُخرى تُقرِّرُ أنَّ التنوُّعَ والاختلافَ هُما سُنّةٌ إلهيةٌ في الخَلقِ وفي الأُمَم. فسورةُ فاطِر، على سبيلِ المِثال، بعدَ أنْ عرضتْ مظاهِرَ الاختلافِ في الخَلقِ، ربطتْ فَهْمَ هذهِ الآياتِ بالعُلماءِ وخشيَتِهم: ﴿...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...﴾ (فاطر: 28). ثمَّ بيّنتْ أنَّ الأُمّةَ التي ورِثتِ الكتابَ ليستْ على درجةٍ واحدة، بل مِنهُم "ظالِمٌ لنفسِهِ ومِنهُم مُقتصِدٌ ومِنهُم سابِقٌ بالخيرات" (فاطر: 32). وكذلكَ الحديثُ النبويُّ الشريفُ الذي رواهُ أبو موسى الأشعريُّ رضيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم قال: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً..." (متفق عليه). فهذا الحديثُ يُبيّنُ كيفَ أنَّ الوحيَ الواحدَ (الغيث) يُثمِرُ بشكلٍ مُختلفٍ باختلافِ "الأراضي" (القلوبِ والقابليات).

هذا كُلُّهُ يُعلِّمُنا أنَّ وَحدةَ المَنبعِ (الوَحي) لا تستلزِمُ بالضرورةِ وَحدةَ الفَهمِ والتطبيقِ عندَ الجميع. فإذا ازدَادَ عِلمُ الإنسانِ وفِقهُهُ، اتّسعَ صدرُهُ لقَبولِ هذا التنوُّعِ (فيما يسوغُ فيهِ الاختلاف)، وأدرَكَ أنَّ الحقيقةَ قدْ تكونُ أوسعَ مِنْ رأيِهِ الواحِد، وأنَّ الاختلافَ بينَ أهلِ الحقِّ أنفُسِهم في الاجتهاداتِ هو أمرٌ وارِدٌ وطبيعي. كما يُستفادُ مِنْ حديثِ "مَثَلُ المؤمنِ الذي يقرأُ القرآنَ كمَثَلِ الأُترُجَّةِ ريحُها طيّبٌ وطعمُها طيّب، ومَثَلُ المؤمنِ الذي لا يقرأُ القرآنَ كمَثَلِ التَّمْرَةِ طعمُها طيّبٌ ولا ريحَ لها..." (متفق عليه، أشارَ إليهِ ابنُ عاشور)، فهذا الحديثُ يُبيّنُ التفاوتَ حتى بينَ المؤمنينَ في درجةِ الانتفاعِ بالقُرآنِ وثمرتِهِ الظاهِرةِ والباطِنة.

خُلاصةٌ للناهِض: مِنْ جُمودِ القَلبِ إلى نورِ البصيرة

إنَّ هذهِ الآياتِ مِنْ سورةِ الزُمَر تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ خارِطةَ طريقٍ للخُروجِ مِنْ "تَكَلُّسِ المفاهيمِ" و "قسوةِ القَلب" إلى "انشراحِ الصدرِ" و "نورِ البصيرة":

مفتاحُ الخيرِ "شرحُ الصدرِ للإسلام": اسعَ لهُ بالصدقِ والإقبالِ على الله.

ثمرةُ الانشراحِ "نورٌ مِنَ الله": يُبدِّدُ الظُلُماتِ ويَهدي السبيل.

احذَرْ "قسوةَ القَلب": فمَنشؤها الإعراضُ عن "ذِكرِ الله"، ومآلُها الضلال.

اجعلِ القُرآنَ ربيعَ قلبِك: فهو "أحسنُ الحديثِ" الذي يُليِّنُ القُلوبَ ويُورِثُ الخشية.

تفكّرْ في آياتِ اللهِ في الكونِ وفي الكتاب: فالعِلمُ بهِما طريقٌ لخشيةِ الله.

تقبَّلِ التنوُّعَ والاختلافَ (السائِغ) كَسُنّةٍ إلهية: ولا تجعلْهُ سببًا للانزعاجِ أو التعصُّب، فـ"العُلماءُ" أوسعُ الناسِ صدرًا وأقدَرُهم على فِقهِ الاختلاف.

حارِبِ الجهلَ والتخلُّفَ بالعِلمِ والحِكمة: فهُما اللذانِ يُؤدّيانِ إلى التفرُّقِ والتشرذُمِ والارتكاس.

خاتِمة:

إنَّ "انشراحَ الصدرِ للإسلام" ليسَ حالةً عاطِفيةً مُجرّدة، بل هو استعدادٌ قَلبيٌّ وعقليٌّ لتلقّي الحَقِّ وقَبولِهِ، وهو ثمرةٌ لتفاعُلٍ حيٍّ ومُستمِرٍّ مع "ذِكرِ اللهِ" وآياتِهِ في الكونِ وفي الكتاب. والناهِضُ الذي يسعى لتغييرِ واقِعِهِ نحو الأفضَل، هو أحوَجُ ما يكونُ إلى هذا الصدرِ المُنشرِحِ وهذا النورِ الإلهيِّ ليُبصِرَ طريقَهُ ويَقودَ مُجتمعَهُ نحوَ الخيرِ والفلاح.


كتب حسان الحميني
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.