استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

التجارة مع الله: بين طلب البركة وحقيقة البذل لأجل الآخرة


"التجارة مع الله" مفهوم عظيم يتكرر كثيرًا على ألسنة المسلمين، يُستحضر في لحظات العطاء والصدقة، عند أداء العبادات، وفي الدعوة إلى الخير. لكن هذا المفهوم، الذي يفترض فيه أن يكون قمة في الإخلاص والتجرد، أصبح في كثير من الأحيان وسيلة لتحقيق المكاسب الدنيوية وتحسين جودة الحياة المادية، بدلاً من أن يكون سلّمًا للآخرة وبذلاً خالصًا في سبيل الله.
إننا -في كثير من صور التدين اليوم- نتاجر مع الله، لكن بطريقتنا الخاصة، طريقة "المقايضة الخفية"، نُصلي ونصوم ونتصدق، لا رغبة في وجه الله وحده، بل أملًا في التيسير، وتوسيع الرزق، وشفاء المريض، ونجاح الأبناء، وكأننا نقدم لله ما يحب، ليرد لنا ما نحب، في الدنيا أولًا.
هذه الصورة المخفية من "التدين النفعي" تسربت إلى النفوس بسبب ضعف الهمّة عن الآخرة، وضعف الإيمان بالغيب، وغياب التصور الكامل لمعنى العبودية لله، التي تتجرد من المصلحة، وتلبس ثوب الإخلاص الكامل. نعم، لا حرج أن يدعو الإنسان ربه بدعاء الدنيا والآخرة، فهذا من فطرة الإنسان، وقد علّمنا القرآن أن نقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". لكن أن تصبح كل عباداتنا وتضحياتنا مشروطة بالمقابل العاجل، فهنا تختل ميزان التجارة.
لو تأملنا حال الصحابة الكرام، لوجدنا نموذجًا مختلفًا تمامًا. إنهم قوم باعوا الدنيا من أجل الآخرة، ضحوا بالدنيا، وركلوا زينتها ، وقدموا أرواحهم وأموالهم لله لا يبتغون إلا رضوانه وجنته. انظر إلى مصعب بن عمير، شاب كان مدللاً في مكة، فلما آمن ترك كل شيء، ومات يوم أُحد لا يجدون ما يكفنونه به. أيّ تجارةٍ هذه؟ إنها تجارة الرابحين: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
هؤلاء ما كانوا ينتظرون بركات دنيوية، بل كانوا يهربون من الدنيا خشية أن تلهيهم عن الله. كان أحدهم يتمنى الموت في سبيل الله، لا ليرزق مالًا أو يُبارك له في عياله، بل ليُرضي الله فقط، ليرتقي في جنات النعيم، حيث لا نصب ولا وصب.
وفي المقابل، تأمل حالنا اليوم. نصوم رمضان ونسأل: كم دعاء تحقق؟ نعتمر ثم نراقب: هل انفرجت الكربة؟ نتصدق ثم نقول: هل زاد الرزق؟ وكأننا نقيس التجارة الإلهية بعين السوق المادي، لا بعين القلب المتصل بالملأ الأعلى.
لكن الله غني عن أعمالنا، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. ونحن المحتاجون إليه، وعبادتنا ليست فضلاً منه علينا، بل شرف منحه لنا. فهل نعطيه ما يستحق، أم ما نريد أن نربح به فقط؟
لقد آن الأوان أن نراجع مفهوم "التجارة مع الله"، أن نعود لفهم الصحابة والتابعين، أن نُخلص النية، ونبذل العمل، ونُحسن الظن بالله، ونعلق قلوبنا بالدار الآخرة. فالبركة الحقيقية، ليست في المال ولا في الصحة، بل في رضى الله، وفي الشعور بالقرب منه، وفي أن تموت وقد قبل الله عملك، ولو كان قليلاً.
في الختام، دعونا نُجدد نيتنا، ونُحوّل هذه التجارة من "طلب للبركة الدنيوية" إلى "سعي للقبول الأخروي"، فالله لا يضيع أجر المحسنين، لكنه لا يحب المساومين على عبادته.



د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.