استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

نحوَ ثقافةٍ ربّانيةٍ مُتكامِلةٍ للنهوض

مقدمة: البحثُ عن الهُويةِ واللَّونِ المُميِّز

في خِضَمِّ التيّاراتِ الفِكريةِ والثقافاتِ المُتدافِعة، يبحثُ الإنسانُ الواعي والمُجتمعُ الحيُّ عن هُويّةٍ راسِخةٍ تُعطيهِ معنًى لِوجودِهِ وتُوجِّهُ حركتَهُ في الحياة. هذهِ الهُويّةُ ليستْ مُجرّدَ شِعاراتٍ أو انتماءاتٍ شكلية، بل هي "صِبغةٌ" تَتخلّلُ كُلَّ جوانبِ الحياة، فتُكسبُها لونًا خاصًّا وطابعًا مُميّزًا. والقُرآنُ الكريمُ يُقدِّمُ لنا مفهومًا فريدًا لهذهِ الصِبغة، إنّها "صِبغةُ اللهِ"، التي هي أحسنُ الصِبَغِ وأكمَلُها، والتي هي أساسُ كُلِّ نهضةٍ حقيقيةٍ وفلاحٍ دائم. فما هي أبعادُ هذهِ الصِبغةِ الربّانية، وكيفَ يُمكِنُ للناهِضِ أنْ يتحلّى بها ويدعو إليها؟

ما هي "صِبغةُ الله"؟ (البقرة: 138)

يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138).
إنَّ "الصِبغةَ" في اللُغةِ هي اللونُ الذي يُصبَغُ بهِ الشيءُ فيُغيِّرُ هيئتَهُ وصِفتَه. و "صِبغةُ اللهِ"، كما فهِمَها المُفسِّرونَ، هي دينُ اللهِ، وفِطرتُهُ التي فَطَرَ الناسَ عليها، ومَنهجُهُ القويم. يقولُ الإمامُ الماورديُّ رحمهُ الله: "فإنْ كانتِ الصِبغةُ هي الدِينَ، فإنّما سُمِّيَ الدِينُ صِبغةً، لظُهورِهِ على صاحِبِهِ، كظُهورِ الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ، وإنْ كانتْ هي الخِلقةَ فلإحداثِهِ كإحداثِ اللونِ على الثوبِ...". فهي إذًا ليستْ مُجرّدَ إيمانٍ باطِن، بل هي "آثارٌ ظاهِرةٌ" و "تغييراتٌ مُحدَثةٌ" في حياةِ الفردِ والمُجتمَع. ويُؤكِّدُ الشيخُ الطوسيُّ رحمهُ اللهُ هذا المعنى الظاهِريَّ العمليَّ نقلًا عن الجُبّائي: "سَمّى الدِينَ صِبغةً لأنّهُ هيئةٌ تظهَرُ بالمُشاهَدةِ مِنْ أثَرِ الطهارةِ والصلاةِ وغيرِ ذلكَ مِنَ الآثارِ الجميلةِ التي هي كالصِبغة".

العَودةُ إلى الفِطرةِ.. وسُرعةُ التأثيرِ الإلهي

ويرى الإمامُ الحَرالّيُّ، كما نقلَ عنهُ البِقاعيُّ رحمهُما الله، أنَّ "صِبغةَ اللهِ" هي "هيئةُ صَبْغِ المَلِكِ الأعلى التي هي حِليةُ المُسلِمِ وفِطرتُهُ". فهذا الدينُ الذي هو صِبغةُ اللهِ يُوافِقُ الفِطرةَ السليمةَ ويُكمِّلُها ويُزيِّنُها. ومِنْ عجائِبِ هذهِ الصِبغةِ الربّانيةِ قُدرتُها التحويليةُ السريعةُ، فهي "تطويرٌ مُعاجِلٌ بسُرعةِ وَحْيِهِ"، كما تحوّلَ حالُ العربِ في الجاهليةِ مِنْ ضلالٍ مُبينٍ إلى هُدًى مُبينٍ بفَضلِ نُزولِ الوَحي.

"صِبغةُ اللهِ".. شامِلةٌ لكُلِّ جوانبِ الكيان

لا تقتصِرُ "صِبغةُ اللهِ" على جانبٍ دونَ آخر، بل هي، كما يُشيرُ الإمامُ القُشيريُّ رحمهُ الله، صِبغةٌ شامِلةٌ لكُلِّ جوانبِ الكيانِ الإنساني: "فلِلقُلوبِ صِبغةٌ وللأرواحِ صِبغةٌ وللأسرارِ (البواطِنِ العميقة) صِبغةٌ وللظواهِرِ صِبغة". إنّها تُشكِّلُ "ثقافةً ربّانيةً مُتكامِلة" تصبُغُ الإيمانَ والرُوحَ والفِكرَ والعَقْلَ والسُلوكَ والعَمَل.
ويُميِّزُ القُشيريُّ بينَ مَصدرَيْ هذهِ الصِبغةِ فيقول: "صِبغةُ الأشباحِ والظواهِرِ بآثارِ التوفيقِ، وصِبغةُ الأرواحِ والسرائِرِ بأنوارِ التحقيق". فالظاهِرُ يتزيّنُ بتوفيقِ اللهِ للأعمالِ الصالِحة، والباطِنُ يستنيرُ بأنوارِ "التحقيقِ" أيْ الوصولِ إلى حقائِقِ الإيمانِ والمعرِفةِ الإلهية.

العِبرةُ بما وَضَعَ الحَقُّ.. لا بما جمَعَ العَبْد

ويُنبِّهُنا الإمامُ القُشيريُّ إلى حقيقةٍ جوهرية: "الإشارةُ أنَّ العِبرةَ بما وضَعَ الحَقُّ لا بما جمَعَ العَبْد، فما يتكلّفُهُ الخَلْقُ فإلى الزوالِ مآلُهُ، وما أثبَتَ الحَقُّ عليهِ الفِطرةَ فإثباتُهُ العِبرة". فالعِبرةُ ليستْ بالمظاهِرِ المُتكلَّفةِ أو المُكتسَباتِ المادّيةِ الزائِلة، بل بالتمسُّكِ بصِبغةِ اللهِ الأصيلةِ التي توافِقُ الفِطرةَ وتُؤسَّسُ على الحَق.

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾: لا بديلَ عن صِبغةِ الله

يُؤكِّدُ القُرآنُ أنَّ "صِبغةَ اللهِ" هي الأحسنُ والأكمَلُ والأجمَلُ، فلا يُمكِنُ لأيِّ صِبغةٍ أُخرى (سواءٌ كانتْ ثقافةً وَضعيةً، أو أيديولوجيةً أرضيةً، أو هوًى شخصيًّا) أنْ تُنافِسَها أو تَحُلَّ مَحَلَّها. وإنَّ الالتزامَ بهذهِ الصِبغةِ هو جُزءٌ مِنْ تحقيقِ العُبوديةِ الخالِصةِ لله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾.

خُلاصةٌ للناهِض: نحوَ ثقافةٍ تَصبُغُ الحياة

إنَّ مفهومَ "صِبغةِ اللهِ" يُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ رؤيةً شامِلةً للثقافةِ التي ينبغي أنْ يسعى لترسيخِها في نفسِهِ وفي مُجتمَعِه:

الغايةُ الأسمى: السعيُ للتحلّي بـ"صِبغةِ اللهِ" التي هي دينُهُ وفِطرتُهُ ومَنهجُهُ القويم.

الشموليةُ والتكامُل: هذهِ الصِبغةُ يجبُ أنْ تشمَلَ كُلَّ جوانبِ الحياة (الإيمانية، الروحية، الفِكرية، السُلوكية، العملية)، فلا تكونُ "جُزُرًا مُنغلِقة"، بل "مَنظومةً مُتفاعِلة".

الأثَرُ الظاهِر: "صِبغةُ اللهِ" ليستْ مُجرّدَ قناعاتٍ باطِنة، بل هي "هيئةٌ جميلةٌ" و "آثارٌ طيّبةٌ" تظهَرُ في سُلوكِ الفردِ والمُجتمَع.

الارتكازُ على الوَحيِ والفِطرة: هذهِ الصِبغةُ تستَمِدُّ قُوّتَها وأصالتَها مِنْ وَحيِ اللهِ وتوافُقِها مع الفِطرةِ السليمة.

الاجتهادُ في "التحقيق": التحلي بهذهِ الصِبغةِ يتطلّبُ سعيًا جادًّا نحوَ "أنوارِ التحقيقِ" (المعرِفةِ الإلهيةِ والبصيرةِ الإيمانية) وتوفيقًا مِنَ اللهِ للأعمالِ الصالِحة.

الاعتزازُ والثبات: لا شيءَ أحسنُ مِنْ "صِبغةِ الله"، فعلينا أنْ نعتزَّ بها ونثبُتَ عليها، وألا نستبدِلَها بصِبغاتٍ أُخرى زائِفةٍ أو قاصِرة.

خاتِمة:

إنَّ مهمّةَ الناهِضِ ليستْ فقطْ مُعالجةَ مُشكلاتٍ جُزئية، بل هي في العُمقِ سعْيٌ "لِصَبْغِ" المُجتمَعِ بِصِبغةِ الله، تلكَ الصِبغةُ التي تُعيدُ للحياةِ معناها، وللقِيَمِ مكانتَها، وللإنسانِ كرامتَهُ ودورَهُ في الاستخلافِ وعِمارةِ الأرض. إنّها دعوةٌ لالتزامِ مَنهجٍ شامِلٍ يُحقِّقُ الانسجامَ بينَ الإيمانِ والعَمَل، وبينَ الظاهِرِ والباطِن، لتكونَ حياتُنا كُلُّها "عِبادةً" للهِ ربِّ العالمين.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.