يسعى الإنسانُ بفطرتِهِ نحو "راحةِ البال" وطمأنينةِ القلب. ولكن، هل كُلُّ هُدوءٍ هو راحة؟ وهل كُلُّ سُكونٍ هو سلام؟ كثيرًا ما تُختَزَلُ "راحةُ البال" في مفهومٍ سلبيٍّ قِوامُهُ تجنُّبُ المشاقِّ والابتِعادُ عن مواطِنِ المُواجهة، حتى لو كانَ ذلكَ على حِسابِ الحقِّ والكرامة. لكنَّ القُرآنَ الكريمَ يُقدِّمُ لنا في سورةِ مُحمّد (سورة القتال) مفهومًا أعمقَ وأسمى لـ"صلاحِ البال"، يربِطُهُ ارتباطًا وثيقًا بالثباتِ على الحقِّ ومُواجهةِ الطُغيان. فهل يُمكنُ أنْ يكونَ خوضُ غِمارِ الشدائِدِ هو الطريقَ لراحةِ البالِ الحقيقية؟
سياقُ الآية: في خِضَمِّ المُواجهةِ والتضحية
تأتي الآيةُ الكريمةُ ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ (محمد: 5) في سياقٍ يُصوِّرُ مشهدَ المؤمنينَ الذينَ يخوضونَ غِمارَ القتالِ في سبيلِ الله، وما يُلاقونَهُ مِنْ شدائِد، وما يُقدِّمونَهُ مِنْ تضحياتٍ تصِلُ إلى بذلِ الأرواح: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ... وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾. هذا السياقُ يُؤكِّدُ أنَّ الوعدَ الإلهيَّ بالهدايةِ وإصلاحِ البالِ يأتي كثمرةٍ للثباتِ والتضحيةِ في مواجهةِ الباطل.
معاني الهدايةِ وإصلاحِ البال: وُعودٌ ربّانيةٌ للمُجاهِدين
لقدْ تناولَ المُفسِّرونَ معانيَ هذا الوعدِ الإلهيِّ بشيءٍ مِنَ التفصيل:
"سَيَهْدِيهِمْ": هذهِ الهدايةُ، كما يُشيرُ الإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ الله، هي "في الداريْنِ بوعدٍ لا خُلفَ فيهِ بعدَ المُجاهَدةِ إلى كُلِّ ما ينفَعُهم مُجدَّدًا ذلكَ على سبيلِ الاستمرار". ويرى الإمامُ الطبريُّ رحمهُ الله أنَّ اللهَ "سيُوفِّقُ... هؤلاءِ الذينَ قاتلوا في سبيلِهِ، للعَمَلِ بما يُرضي ويُحِبُّ". أمّا الإمامُ الفخرُ الرازيُّ رحمهُ الله فيُبيِّنُ أنَّ هذهِ الهدايةَ قدْ تكونُ في الدُنيا (بالثباتِ والتوفيق) أو في الآخِرةِ (إلى طريقِ الجنّةِ مُباشرةً للشُهداء). إنّها هدايةٌ شامِلةٌ ومُستمِرّةٌ تضمنُ السلامةَ مِنَ الضلالِ والانحراف.
"وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ": "البالُ" هو الحالُ والشأنُ والفِكرُ والقَلب. وإصلاحُهُ يعني، كما قالَ الطبري، أنَّ اللهَ "يُصلِحُ أمرَهُمْ وحالَهُمْ في الدُنيا والآخِرة". ويُفصِّلُ البِقاعيُّ هذا المعنى بقولِهِ إنَّ اللهَ يجعَلُ "مَوضِعَ فِكرِهم... مُهيّأً لكُلِّ خيرٍ بعيدًا عن كُلِّ شرٍّ آمنًا مِنَ المخاوِفِ مُطمئِنًّا بالإيمانِ بما فيهِ مِنَ السكينة". هذا هو جوهرُ "راحةِ البالِ" الحقيقيةِ التي هي ثمرةُ الطاعةِ والجِهاد، لا القُعودِ والذِلّة. ويُضيفُ الشيخُ الطوسيُّ رحمهُ الله لفتةً دقيقةً بأنَّ "إصلاحَ البالِ" المذكورَ هنا (آية 5) والذي يختصُّ بالمُقاتِلين، هو أخصُّ وأتمُّ مِنْ "إصلاحِ البالِ" المذكورِ في الآيةِ (2) مِنْ نفسِ السورةِ والذي يتعلّقُ بعُمومِ المُؤمنينَ العامِلينَ للصالحات، فإصلاحُ بالِ المُجاهِدينَ يتعلّقُ بحالِهم "في النعيمِ" الأُخرويِّ بشكلٍ خاص.
مُواجهةُ الطُغيانِ.. طريقٌ لـ "صلاحِ البالِ" الشامِل
إنَّ إقبالَ الناهِضِ على مُواجهةِ الطُغيانِ والظُلمِ ليسَ مُجرّدَ أداءِ واجِبٍ عسكريٍّ أو سياسي، بل هو في حقيقتِهِ "حِصنٌ" لصلاحِ بالِهِ هو وصلاحِ بالِ مُجتمعِه. فكما قيلَ بحقّ: "لا راحةَ بالٍ معَ الذُلِّ". الذُلُّ والقهرُ يُورِثانِ المهانةَ والقلقَ والاضطرابَ النفسيَّ والاجتماعي. أمّا السعيُ لرفعِ الظُلمِ وإقامةِ العدل، فهو الذي يُحقِّقُ العِزّةَ والكرامةَ والأمنَ والطمأنينةَ الحقيقيةَ للفردِ والمُجتمع.
فيكونُ سعيُ الناهِضِ في مُواجهةِ الطُغيانِ هو في جوهرِهِ "تحصيلٌ وتحصينٌ" لراحةِ البالِ الأسمى والأبقى. بل إنَّ هذا السعيَ قدْ يمتدُّ أثرُهُ، كما يُرجى، ليشملَ حتى الطُغاةَ أنفُسَهم، فيُخلِّصُهم مِنْ آفةِ طُغيانِهم، ويوقِفُهم عندَ حُدودِهم، ويمنعُهم مِنَ التمادي في الشرِّ والفساد، وذلكَ مِنْ رحمةِ اللهِ التي قدْ تتجلّى في أقدارٍ تبدو في ظاهرِها شديدة.
خُلاصةٌ للناهِض: ثباتٌ، فهدايةٌ، فصلاحُ بالٍ، فجنّة
تُقدِّمُ لنا هذهِ الآياتُ مِنْ سورةِ مُحمّد خارِطةَ طريقٍ واضِحةً للتعامُلِ مع شَدائِدِ طريقِ النهضةِ والإصلاح:
لا تخشَ المُواجهةَ في سبيلِ الحقّ: فالطريقُ إلى العِزّةِ وصلاحِ البالِ يَمُرُّ عبرَ الثباتِ والتضحية.
ثِقْ بوعدِ اللهِ بالهداية: مَنْ جاهَدَ في الله، تكفّلَ اللهُ بهدايتِهِ وتوفيقِهِ في الدُنيا والآخِرة.
اطمئِنَّ إلى إصلاحِ اللهِ لبالِك: فاللهُ يُصلِحُ شأنَ المُجاهِدينَ في سبيلِهِ، ويُذهِبُ عنهُمْ الهمَّ والغمَّ، ويُبدِلُهم أمنًا وسكينة.
استبشِرْ بالجزاءِ الأوفى: الجنّةُ هي المأوى والمُستقَرُّ الذي يُنسي كُلَّ تعبٍ ونَصَب.
لا تُضيَّعْ تضحياتُك: فاللهُ تعالى لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنينَ المُجاهِدين ﴿فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾.
خاتِمة:
إنَّ "صلاحَ البالِ" الذي يَعِدُ بهِ القُرآنُ المُؤمنينَ المُجاهِدين، ليسَ مُجرّدَ حالةٍ نفسيةٍ سلبيةٍ تتجنّبُ الآلام، بل هو حالةٌ إيجابيةٌ فاعِلةٌ تنبُعُ مِنَ الثباتِ على الحقِّ، والسعيِ لإقامةِ العدل، والثقةِ بوعدِ الله. إنّها "راحةُ بالِ العِزّةِ والكرامةِ" التي هي أثمنُ وأبقى مِنْ كُلِّ راحةٍ زائِفةٍ تُبنَى على الذُلِّ والقُعود. فلنكُنْ مِمّنْ يختارونَ "ضريبةَ العِزّةِ والكرامة"، مُستبشِرينَ بهدايةِ اللهِ وإصلاحِهِ لبالِنا في الدُنيا والآخِرة.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.