النهضة ليست حدثاً عابراً أو شعاراً يُرفع، بل هي مشروع متكامل يتطلب إعادة هندسة العقل الفردي والجمعي، وتنمية القدرات، وتحويل الأفكار إلى واقع ملموس. ولتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على أربعة أركان متكاملة:
المعارف (المنهجيات) تغيير القناعات (التصورات)
المهارات (التدريب)، والتطبيقات (المشاريع).
هذه الرباعية تشكل دورة حيوية تبدأ بالفهم وتنتهي بالتأثير في الواقع، مع أمثلة تطبيقية من تاريخ النهضات وخبرات الأمم.
١. المعارف: المنهجيات الفكرية والتأسيس العلمي
لا يمكن بناء نهضة دون أسس معرفية صلبة. المعارف هنا ليست مجرد معلومات، بل منهجيات تفكير تُسائل المسلمات، وتُحلّل المشكلات، وتستند إلى أدوات علمية وعملية.
-مثال تاريخي: النهضة الأوروبية اعتمدت على ترجمة وإعادة قراءة التراث الإسلامي والعلمي اليوناني، لكنها انتقلت إلى منهجية نقدية تجريبية كما عند فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت.
مثال معاصر: النهضة التكنولوجية في سنغافورة بدأت بإصلاح التعليم ليركز على الرياضيات التطبيقية والعلوم التجريبية، مما حوّلها إلى مركز عالمي للابتكار.
التطبيق: لو أرادت دولة عربية النهوض بالذكاء الاصطناعي، فعليها إدخال مناهج تحليل البيانات وتعلم الآلةفي الجامعات، مع تشجيع البحث العلمي الموجه لحل المشكلات المحلية مثل الزراعة الذكية أو إدارة المياه.
٢. تغيير القناعات: من العقلية الثابتة إلى النموذج التكاملي
القناعات هي المحرك الخفي للسلوك. النهضة تحتاج إلى تحرير العقل من الأفكار الجامدة (مثل "نحن شعب غير منتج") واستبدالها بقناعات تمكينية (مثل الإبداع مهارة يمكن تعلمها).
مثال تاريخي: اليابان بعد الحرب العالمية الثانية حوّلت هزيمتها إلى فرصة بإيمانها بقدرتها على التعلم من الغرب دون فقدان هويتها، مما أنتج شركات مثل تويوتا التي غيّرت مفاهيم الجودة العالمية.
مثال مجتمعي: في رواندا، بعد الإبادة الجماعية، تم بناء قناعة "التسامح والهوية المشتركة" عبر الحوار المجتمعي، مما ساهم في معدلات نمو اقتصادي من الأعلى عالمياً.
التطبيق: في المجتمعات العربية، يمكن تعزيز قناعة "الفشل خطوة للتعلم" عبر قصص نجاح محلية (مثال: نجاح كريم نجار مؤسس "سوق" في الإمارات رغم التحديات).
٣. المهارات: التدريب والتمكين العملي
المعرفة دون مهارة كالسيارة بلا عجلات. المهارات تُترجم الأفكار إلى أفعال، سواء كانت تقنية (مثل البرمجة) أو إدارية (مثل القيادة).
مثال عالمي: ألمانيا اعتمدت على نظام التعليم المهني المزدوج، حيث يتدرب الطلاب في المصانع أثناء الدراسة، مما خلق عمالة ماهرة تُعتبر عماد الاقتصاد الألماني.
مثال ريادي: ورش العمل المكثفة في وادي السيليكون حول "التصميم المركّز على المستخدم" ساهمت في نجاح شركات ناشئة مثل أوبر.
التطبيق: إنشاء أكاديميات متخصصة في الطاقة المتجددة في السعودية، مع تدريب عملي في مشاريع نيوم أو الرياض الخضراء، لصناعة كوادر قادرة على قيادة التحول الطاقةي.
٤. التطبيقات المشروعية: من النظرية إلى الأثر الملموس
أعظم النظريات تبقى حبراً على ورق إن لم تُطبّق في مشاريع تُحسّن حياة الناس. المشاريع هي الاختبار الحقيقي لأي نهضة.
مثال تاريخي: مشروع السكك الحديدية العابرة للقارات في أمريكا القرن 19 لم يكن مجرد بنية تحتية، بل أداة توحيد للاقتصاد والأرض، مما عزز النهضة الأمريكية.
مثال حديث: مشروع "بنك الفقراء" في بنغلاديش (مؤسسة جرامين) حوّل قناعة "إقراض المعدمين مستحيل" إلى واقع، وأثبت أن المشاريع الصغيرة يمكنها محاربة الفقر.
التطبيق: في مصر، مشروع "المليون وحدة سكنية"لو رُبط مع تدريب الشباب على تقنيات البناء الحديثة (مثل الطباعة 3D)، لكان نموذجاً للنهضة العمرانية والاجتماعية معاً.
الخلاصة: الرباعية كدورة متكاملة
لا يمكن فصل هذه الأركان:
- المعارفتُغذي العقل،
- القناعات تُحرّك الإرادة،
- المهارات تُحوّل الأفكار إلى قدرات،
- المشاريع تخلق الأثر.
النهضة ليست "معجزة"، بل هي "صناعة إنسانية" تحتاج إلى خطة واضحة، وإرادة سياسية ومجتمعية، وأهم من ذلك: البدء فوراًمن حيث تتوفر الموارد، ولو بخطوات صغيرة. كما قال لي كوان يو، مهندس نهضة سنغافورة:
"البداية قد تكون متواضعة، لكن النهاية يجب أن تكون عظيمة."
فلا تنظروا إلى ضعف البدايات ولكن انظروا إلى كمال النهايات
د.سامر الجنيدي_القدس