رسالة الأنبياء والمرسلين جميعا واحدة وهي إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك ؛ ورغم اختلاف تشريعات الرسالات وكيفية العبادات لكن اللباب واحد ..
إلا الحج ..
الحج عبادة تميزت عن كل العبادات في ديننا؛ بأنها شرعت في زمان إبراهيم عليه السلام
وبقي الزمان والمكان والكيف والقصد واحد من يومها حتى يومنا هذا دون تغيير...
لماذا ؟
الحج هو العبادة الوحيدة التي شرع فيه الجهر بالنية بالتلبية بعد الإحرام ..
لماذا شرع التجرد من المخيط والهتاف بصوت مسموع ؟
ألا يعيدنا هذا إلى أصل الخلق:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)
لقد خلقنا عراة من الثياب موحدين لله ربا ..
الحج هو العبادة التي يتجمع فيها المسلمون من كل أصقاع الدنيا ليؤدونها في زمان ومكان واحد بشكل واحد ونداء واحد ..
لماذا تهفو النفوس من زمن إبراهيم عليه السلام إلى اليوم للبيت الحرام ؟
الحج حنين للفطرة الأولى رغم اختلاف الألوان والثقافات التي لو تعددت في أي مكان لساد الشقاق والخلاف والتناحر ..
ولكن الحج رسالة للعالمين أن ديننا يحقق التناغم للبشرية والتوافق بينها بلا تكلف ولا قوانين ولا رقابة ..
كرم الله العرب بأن جعل بلادهم حرما يقدم إليها كل الأمم ..
وقد توارثت القبائل العربية التسابق في استضافة الحجيج وإكرامهم ..
ففي الطريق إلى مكة كانت هناك امرأة تلت السويق تمرا بلبن وتقدمه للحجيج وحين ماتت جعلوا لها صنما - اللات - .
وفي يوم التروية كانت القبائل تتسابق في سقاية الحجيج وتزويدهم بالماء والطعام استعدادا ليوم الحج الأكبر عرفات ..
يتدافع الناس زرافات ووحدان إلى صعيد عرفات يشد بعضهم بعضا ويحمل بعضهم بعضا يستعينون ببعضهم في حركة مستمرة حتى يستقرون فوق عرفة ..
في درس عملي راق عن التكافل والتراحم والتكامل ونموذج فريد متجدد كل عام للإنسانية تتعلم منه البشرية الأخلاق بشكل عملي صادق بعيدا عن الشعارات الجوفاء والنظريات البحتة المفتقرة للمثال العملي ..
وهذا تذكير متجدد لأبناء هذه الأمة أن الخير لهذه الأمة بالجماعة والتدافع والتسابق ، وأن هذا النموذج الراقي هو الشكل الذي يجب أن نكون عليه في أي أرض وأي زمان ..
في عرفات يقف الناس في صعيد واحد وفي ساعة واحدة وبثوب واحد وصوت واحد وهدير الدموع واحد والمطالب متعددة ..
لنتعلم أن الاختلاف قوة والتعدد وتنوع المطالب إذا اتفقت الطريق وتوحد القصد رحمة خير لاحرج فيه؛ حتى لا يتلاوم الناس في الحياة على اختلاف المآرب مادام القصد واحد..
ثم تغرب الشمس وتبقى شمس الأمة ساطعة لأن ربها حي قيوم لا يموت ..
وفي مزدلفة ترى أرق المشاعر كيف لا وقد خرجوا من ذنوبهم على فطرة الخلق الأول ؛ تجد الناس يحنو بعضهم على بعض يتوسد أحدهم فخذ الآخر ويأكل المرء من يدي أخيه ..
ثم تشرق الشمس على أمة متلاحمة دينها وسط وشريعتها غايتها نفع الناس ؛ ليذبح الهدي وتقدم الفدية طعاما لفقراء الحرم ..
في الحج يأتي الناس ببضاعتهم من كل بقاع الدنيا ويروج البيع والشراء ..
تتعارف الشعوب ويتبادلون ثقافاتهم ويستأنسون بإخوانهم من أقصى الدنيا لأدناها ..
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)
تتابع المسيرات ذهابا وإيابا على الجمرات ليتعلم الناس درس نبذ الهوى وتعهد الشهوات بالنبذ والعصيان لشياطين الإنس والجن حتى يحقق الفلاح في الدنيا والآخرة ..
الحج العبادة الوحيدة التي لا تصح إلا في جماعة ولا تقبل إلا في وقتها المخصوص وهي فريضة مرة في العمر ؛ فهذه المدرسة كفيلة لمن حضرها بقلبه وجوارحه وروحه أن يتعلم الأخلاق والسلوك القويم في هذا المجتمع الرباني ليعود على البشرية بالخير طول حياته ..
الحج نسك عظيم القدر وركن الإسلام الخامس لكنه يتسم باليسر ورفع الحرج فقد ثبت عن النبيﷺ أنه قال لكل من سأله عن تقديم أو تاخير في الشعائر يوم النحر : " افعل ولا حرج" ؛ الحضارات العظيمة تبنى بأسس قوية وطرق بسيطة دون تكليف البشر فوق طاقتهم ولا تعقيد ..
الحج روح العدالة ودستور المساواة الواضح الصريح يلتزم نسك التمتع من استطاع والقارن الأقل استطاعة والمفرد من كان أقل استطاعة منهما ..
في الحرم الآمن تغفو القطط ملء جفونها رغم الزحام وتتهادى الحمامات في باحاته رغم كثرة الأرجل ..
وهكذا يجب أن تكون المجتمعات المسلمة رحمة للعالمين وجوار للخائفين ..
الحج مدرسة الإنسانية التي يصعب على أي مفكر أو فيلسوف أن يحاكيه بمثال عملي يحقق هذه المكاسب الأخلاقية والإنسانية ..
بقلم : #فاطمة_بنت_الرفاعي