يشهد الواقع الإسلامي المعاصر حالة من التراجع الحضاري تشبه في كثير من جوانبها ما عاشته أوروبا خلال عصورها الوسطى: تفكك سياسي، استبداد ديني، تخلف علمي، واستلاب ثقافي واقتصادي. وبينما خرج الأوروبيون من ذلك النفق المظلم إلى عالم الحداثة والتقدم، لا يزال السؤال الملحّ اليوم هو: لماذا تأخر المسلمون؟ وكيف يمكنهم الخروج من هذا النفق؟
الخطوة الأولى في أي عملية تغيير حقيقي هي الاعتراف الصادق بالمشكلة. لا نهضة دون وعي بأسباب التخلف، ولا تحرر دون شجاعة مواجهة الذات. وللأسف، لا تزال الكثير من النخب في العالم الإسلامي تمارس الهروب من الجذور الحقيقية للتراجع، وتكتفي بتكرار شعارات مطاطة عن المؤامرة أو تآمر "الآخر"، متناسية أن الخلل غالبًا يكمن في الداخل أكثر مما هو في الخارج.
في المقابل، علينا أن نتعلم من تجربة أوروبا نفسها. أوروبا لم تنهض فقط لأنها قرأت كتب ابن رشد وابن سينا، بل لأنها أجرت مراجعة شاملة لمنظومة تفكيرها، وآليات سلطتها، وعلاقتها بالعلم والدين والمجتمع. لقد تمردت على الاستبداد الديني الذي صادر العقل واحتكر التأويل، وفتحت الباب أمام حرية التفكير، والعقلانية، والتجريب، وفصل السلطات. هذا التمرد لم يكن لحظيًا ولا سريعًا، بل كان نتاجًا لتراكم فكري وثقافي امتد لقرون، وشارك فيه فلاسفة ومصلحون وعلماء وشعوب.
ونحن اليوم كمسلمين، إذا أردنا الخروج من هذه "المرحلة المظلمة"، فنحن بحاجة إلى نهضة عميقة على عدة مستويات:
أولًا: تحرير العقل
العقل المسلم لا يزال مكبّلاً بقيود التقليد، والتلقين، والخوف من السؤال. نحتاج إلى استعادة دور العقل النقدي، القادر على التمييز بين الثابت والمتغير، بين الوحي وبين اجتهادات البشر في فهم الوحي. فالخلط بين النصوص المقدسة و"التراث البشري" أدى إلى تقديس أنماط تاريخية تجاوزها الزمن. النهضة تبدأ حين نحرر العقل من الأوهام، ونعلّمه أدوات التفكير المنهجي، ونربطه بالواقع والسنن الكونية.
ثانيًا: إصلاح جذري في فهم الدين
الدين في حقيقته قوة دافعة للنهضة، لكن عندما يتحول إلى منظومة مغلقة يديرها رجال دين يحتكرون الفهم والتأويل، يتحول إلى أداة تعطيل. نحتاج إلى ثورة فكرية إيمانية، تعيدنا إلى القرآن باعتباره كتاب قيادة وتغيير، لا مجرد كتاب عبادات ومواعظ. القرآن يدعو للتفكر، ويحث على العلم، ويؤسس لفقه الواقع والمجتمع والتاريخ. لا بد من تجديد جذري في أصول الفقه، ومناهج التفسير، وإعادة تعريف العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع.
ثالثًا: بناء الإنسان قبل المؤسسة
النهضة لا تبدأ من القوانين أو الأنظمة، بل من الإنسان ذاته: فكره، أخلاقه، رؤيته للعالم. مشروع النهضة يجب أن يبدأ بإعادة صياغة الإنسان المسلم ليكون فاعلًا، حرًا، مسؤولًا، منتجًا، مؤمنًا بدوره في عمارة الأرض. لا بد من مراجعة عميقة للمنظومة التربوية والتعليمية والإعلامية، لأنها حاليًا تُنتج جيلًا تابعًا، لا جيلًا قائدًا.
رابعًا: مشروع حضاري طويل الأمد
النهضة لا تأتي بقرار سياسي، ولا بثورة عاطفية، ولا بحماس مؤقت. إنها مشروع حضاري شامل، يحتاج إلى رؤية واضحة، وعمل طويل النفس، وتراكم مؤسسي، وتعاون شبكي بين رواد الإصلاح في مختلف الميادين. يجب أن نفكر بمنطق "50 عامًا" لا بمنطق "الانتخابات القادمة". النهضة لا تصنعها الأفراد وحدهم، بل تصنعها الكتلة الواعية المنظمة، التي تبني وتقاوم وتُبدع.
خامسًا: التصالح مع العصر لا التذيل له
ليس المطلوب من المسلمين أن ينسلخوا عن هويتهم، بل أن يُعيدوا قراءة تراثهم على ضوء حاجات العصر. لا يمكن أن نبني نهضة ونحن نعادي مفاهيم مثل الحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والعلم الحديث، بحجة أنها مفاهيم غربية. الواجب هو أن نفهمها، وننقدها، ونطوّرها، ونقدّم البديل الإسلامي الحضاري الحقيقي، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
في النهاية، ليست المشكلة في "الإسلام"، بل في فهمنا للإسلام، وفي طريقتنا في إدارة حياتنا ومجتمعاتنا باسمه. الله تعالى لم يعدنا بالنصر لأننا نحمل أسماء إسلامية، بل لأننا نحقق شروط النصر، كما قال تعالى:
"إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" (محمد:7).
ولن ننتصر لله إلا إذا نصرنا مقاصده: العدل، الحرية، الكرامة، العلم، الشورى، عمارة الأرض.
وحين نبدأ بهذا الوعي، ونبني هذا المشروع، سيكون لنا – بإذن الله – موعد جديد مع التاريخ.
د.سامر الجنيدي_القدس