يضع القرآن الكريم في آية واحدة قصيرة من سورة الزخرف قانونًا من أخطر قوانين الاجتماع السياسي، ويكشف سر العلاقة المرضية بين الطغيان والخنوع. يقول تعالى في وصف فرعون وقومه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۖ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماٗ فَٰسِقِينَۖ﴾ (الزخرف: 54). هذه الآية ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي تشريح دقيق لدائرة الهلاك المغلقة: فعل (الاستخفاف)، يقود إلى نتيجة (الطاعة العمياء)، التي يتضح أن جذرها هو علة كامنة (الفسق).
تمثل هذه الآية تحديًا مزدوجًا و"مَزلقَين" خطيرين أمام كل ناهض يسعى لتغيير واقعه: المزلق الأول هو أن يقع هو في ممارسة الاستخفاف بمجتمعه. والمزلق الثاني هو أن يغفل عن معالجة "قابلية المجتمع للاستخفاف".
آلية الداء: "التفكير الإنابي" وشلل إرادة الأمة
في مكمن هذا الداء تقع آفة فكرية خطيرة يمكن تسميتها بـ"التفكير الإنابي"، وهي آلية مركبة ذات وجهين تشل عقل الأمة وتؤسس للاستخفاف:
- استبداد القائد: "أنا أنوب عنكم في التفكير": هنا، يرى القائد أو الناهض المزعوم نفسه العقل الوحيد المفكر، ويرى مجتمعه قاصرًا لا يحسن التدبير. فيعزلهم عن المعرفة والقرار، ظنًا أنه بذلك يخدمهم، لكنه في الحقيقة يعطل عقل الأمة ويؤسس لعبادة شخصه.
- استقالة المجتمع: "هم ينوبون عنا في التفكير": هذا هو الوجه الآخر للعملة، حيث يستقيل المجتمع أو قيادته من مسؤولية الاجتهاد والإبداع، ويوكِلها إلى "نائب" خارجي، سواء كان نموذجًا غربيًا أو شرقيًا يتم استنساخه، أو نموذجًا تاريخيًا يُستدعى من بطون الكتب بشكل جامد.
إن "استخفاف" فرعون هو التطبيق الأمثل للوجه الأول، و"طاعة" قومه هي الإقرار الكامل بالوجه الثاني. وهكذا، فإن محاربة الاستخفاف تبدأ من محاربة هذا النمط من التفكير.
أعراض الداء: تشخيص العلماء لـ "القابلية للاستخفاف"
لقد غاص المفسرون في تحليل هذه الظاهرة، فكشفوا عن أعراض هذا المرض:
- العَرَض العقلي: قبول الحجة الزائفة
يكمن أساس الاستخفاف في تعطيل العقل. يشرح الشيخ الطوسي أن فرعون: "...استخف عقول قومه... لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل". فالمرض الأول هو العجز عن التفكير النقدي، والخلط بين "دليل القوة" و"قوة الدليل".
- العَرَض النفسي: الخضوع للرهبة لا الرغبة
الطاعة الناتجة عن الاستخفاف ليست طاعة حقيقية، بل طاعة جسدية لا قلبية. وهو ما يوضحه الإمام القشيري: "أطاعوه طاعةَ الرهبة، وطاعة الرهبةِ لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرت عن الرغبة".
- العَرَض الروحي-الاجتماعي: التجانس في الفساد
يصل الإمام البقاعي إلى أعمق نقطة في التحليل، فيرى أن طاعة القوم لفرعون، بعد رؤيتهم لمعجزات موسى، لم يعد لها تفسير إلا التشابه في الجوهر، وسببها هو: "...المشاكلة في خباثة الأرواح". فالمجتمع الفاسق يميل بطبعه لمن يشبهه، وهذا الفسق أصبح متجذرًا حتى صار لهم "خلقاً ثانياً".
منهج الناهض: العلاج المزدوج
أمام هذا المرض المركب، لا بد أن يكون علاج الناهض مزدوجًا:
أولاً: تحصين النفس من مزلق الاستخفاف:
على الناهض أن يبدأ بنفسه، فيتجنب الوقوع في فخ النخبوية والتعالي. عليه أن يؤمن بالطاقة الكامنة في مجتمعه، وأن يرى أن مهمته هي التحفيز لا الإنابة، والإرشاد لا الفرض.
ثانيًا: بناء "مناعة المجتمع" ضد الاستخفاف:
هنا تأتي المعركة الحقيقية، وهي معركة وعي ومعرفة. وكما يصف سيد قطب منهج الطغاة في صناعة الجهل، فإن منهج الناهض يجب أن يكون على النقيض تمامًا:
كسر العزلة المعرفية: فضح المغالطات، ونشر الحقائق، وتعليم الناس التفكير النقدي.
إحياء الكرامة الإنسانية: تذكير الأمة بقيمتها ورسالتها، وربطها بمصادر عزتها الحقيقية، حتى تستعيد "ثقلها" المعنوي.
بناء الحصن الإيماني: يدرك الناهض أن الطاغية "لا يملك أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون"، كما يقول قطب. لذا، فإن العمل الجذري هو إعادة بناء "الحصن الإيماني" الذي يجعل الفرد والمجتمع "عصيًا على الخداع والاستخفاف"، فيتحول ولاؤه من "طاعة الرهبة" للطاغية إلى "طاعة الرغبة" في منهج الله.
إن مهمة الناهض ليست مجرد تغيير نظام، بل هي تغيير إنسان. هي انتشال المجتمع من "خفة" الجهل والفسق والخوف، إلى "ثقل" الوعي والإيمان والكرامة، ليصبح مجتمعًا راشدًا لا يُستخف به، وقادرًا على حمل مشروع نهضته بنفسه.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.