ما هي هوية الإنسان في هذا الكون؟ وما هو المنهج الذي يضمن له أن يحقق الغاية من وجوده دون أن يطغى أو يفسد؟ في سورة الحديد، يقدم القرآن الكريم جوابًا من آيتين متكاملتين، ترسم أولاهما "الهوية"، وتضع ثانيتهما "المنهج"، ليكتمل بذلك "ميزان النهضة" الذي لا تقوم حضارة راشدة إلا به.
الأساس الأول: الهوية التأسيسية (نحن مستخلفون لا مُلّاك)
قبل الحديث عن أي منهج أو قانون، تضع سورة الحديد القاعدة التي يرتكز عليها كل شيء، فتحدد هويتنا الحقيقية في هذا الوجود. يقول تعالى:
﴿ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِۖ فَالذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمُۥٓ أَجْرٞ كَبِيرٞۖ﴾ (الحديد: 7)
كلمة واحدة هي مفتاح كل شيء: ﴿مُّسْتَخْلَفِينَ﴾. نحن لسنا مُلّاكًا أصليين، بل وكلاء مؤتمنون، خلفاء في ملك ليس لنا. هذه الهوية تغير نظرتنا لكل شيء: للأفكار، وللناس، وللأشياء. إنها المنطلق الذي يصحح علاقتنا بالكون كله، ويجعلنا في شوق لمعرفة منهج المالك الأصلي الذي استخلفنا.
الأساس الثاني: المنهج المتكامل (أدوات المستخلف)
وبعد أن حددت الآية السابعة هويتنا، تأتي الآية الخامسة والعشرون من نفس السورة لتقدم لنا "منهج وأدوات" هذا الاستخلاف:
﴿لَقَدَ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَ۬لنَّاسُ بِالْقِسْطِۖ وَأَنزَلْنَا اَ۬لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اَ۬للَّهُ مَنْ يَّنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِالْغَيْبِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞۖ﴾ (الحديد: 24)
هنا، تتجاور "عوالم الحضارة" الثلاثة في نظام بديع:
عالم الأفكار (المبدأ): يتمثل في ﴿الْكِتَابَ﴾. فهو مصدر المبادئ الحاكمة، والتصورات الصحيحة، و"مغزل عالم الأفكار" الذي ينسج رؤية متكاملة للوجود.
عالم الأشخاص (المجتمع): يتمثل في ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. فالغاية هي إقامة العدل في علاقات الناس، والأداة التي تحقق ذلك هي ﴿الْمِيزَانَ﴾.
عالم الأشياء (القوة المادية): يتمثل في ﴿الْحَدِيدَ﴾. إنه رمز القوة المادية والتكنولوجيا التي بها "بأس شديد" للحماية، و"منافع للناس" للبناء والعمران.
الميزان: منظم العلاقة بين العوالم
إن دور "الميزان" هنا هو دور "المنظم الأعلى" الذي يضبط العلاقة بين هذه العوالم. فالكتاب (الأفكار) ينزل ليعطي الناس الميزان (العدل والشريعة) ليقيموا به القسط (في عالم الأشخاص)، ثم يُسلَّم الحديد (القوة) لهؤلاء الناس الذين يحملون الكتاب ويلتزمون الميزان. وكما يلخص الإمام ابن عطية هذه المنظومة بقوله:
"يترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً وسلاحاً يحارب به من عَنَدَ ولم يهتدِ بهدي الله فلم يبقَ عذر".
إن الميزان هو الذي يمنع طغيان عالم على آخر. فالحديد بلا كتاب وميزان هو طغيان، والكتاب بلا تفعيل في واقع الناس هو جمود، والناس بلا ميزان يحكمهم هم فوضى. وكما يوضح العلامة المكي الناصري، فإن إقامة العدل (الميزان) هي "الغاية الأسمى" من إنزال الكتاب، تأكيداً على "تلازم الشريعة الإلهية مع الحكم بها".
فقه الاستخلاف: نصرة لله أم نصرة للنفس؟
ولكن، لماذا يحتاج الله القوي العزيز إلى نصرتنا بالكتاب والميزان والحديد؟ هنا يأتي الإمام الماتريدي ليضع لنا الأساس العقدي الذي يحمي الناهض من الغرور، فيوضح أن الله ينسب النصرة إليه تشريفًا لنا، وإلا فالنفع كله عائد إلينا. ويقول في تفسير ختام الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾:
"ذكر هذا ليعلم أنه لم يأمر في ما أمرهم من القتال والنصر لحاجة نفسه... أخبر أنه قوي بنفسه، عزيز بذاته. ولكن إنما أمرهم بما أمر... لنصر أنفسهم ولقوتهم."
خاتمة: الناهض هو الأمين على الميزان
إن مشروع الناهض يبدأ من وعيه العميق بهويته كـ "مستخلف". هذا الوعي يجعله أمينًا على المنهج الذي سلمه له المستخلِف. فيتخذ الكتاب مرجعه، والميزان معياره، والحديد أداته. إنه يدرك أن سر تخلف أي أمة هو اختلال هذا الميزان، وأن مفتاح النهضة هو العودة إلى هذه المنظومة الإلهية المتكاملة، حيث تخدم القوة المادية (الحديد) مجتمعًا عادلاً (يقوم بالقسط)، وهذا المجتمع يستلهم قيمه ومنهجه من كتاب الحق (الوحي).
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.