إن كل فعل إنساني، من أصغر سلوك فردي إلى أكبر مشروع حضاري، إنما هو نتاج لـ "يقين" راسخ في العقل والقلب. والمعركة الحقيقية التي يخوضها كل ناهض ومصلح ليست معركة ضد "الأفعال" الظاهرة فحسب، بل هي بالأساس معركة أعمق مع "شبكة المفاهيم" التي تنتج هذه الأفعال. فالسياسة والثقافة والاقتصاد والواقع ككل، لبنته الأساس هي المفهوم. ودور الناهض، كـ "مهندس مفاهيمي"، هو أن يتعامل مع هذه الشبكة في مجتمعه، كاشفًا عن مفاهيم تحتاج إلى "تجديد"، وأخرى إلى "تحييد"، وثالثة إلى "استبدال".
وهذه "المجاهدة" الفكرية والتربوية، بكل ما فيها من صبر ومراس، هي من أعظم ما تشير إليه الآية الجامعة في ختام سورة العنكبوت: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
المجاهدة كـ "فعل مستمر": منطق القطرة وأديسون
قد تبدو معركة تغيير المفاهيم المتحجرة كمحاولة لثقب صخرة صماء. لكن الناهض يدرك "سنة الأثر التراكمي". فهو كقطرة الماء الضعيفة التي بتكرار سقوطها تحدث ثقبًا في الصخر، وكـ "أديسون" الذي بتكرار تجاربه التي تجاوزت المائة، أحدث ثورة في مفهوم الإضاءة. هذا الجهد الدؤوب هو ما تسميه الآية "مجاهدة". وكما يوضح الإمام الغزالي، فإن الله جعل "المجاهدة مقدمة للهداية"، فالهداية ليست حالة سكونية، بل هي ثمرة لسعي وعمل. فالمجاهدة، كما يقول، هي "أعمال الجوارح"، والهداية هي "أعمال القلوب"، وجعل الله إحداهما "مرقاة" للأخرى.
منهج الناهض: التجديد والتحييد والاستبدال
إن "المجاهدة في الله" ﴿فِينَا﴾، التي هي شرط الهداية، تتطلب من الناهض أن يكون طبيبًا حاذقًا، يستخدم المشرط المناسب لكل داء في شبكة مفاهيم مجتمعه:
1. التجديد : هناك مفاهيم صحيحة في أصلها، لكنها أصابها الجمود. ومفهوم "الجهاد" هو أبرز مثال. فالناهض يجاهد لتجديده، ليخرجه من حصره في "القتال العرفي"، ويعيد إليه شموله الذي أوضحه أبو سليمان الداراني، كما نقل ابن عطية، بأنه "نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس".
2. التحييد : هناك مفاهيم فطرية، كحب الوطن أو الاعتزاز بالقبيلة، لكنها "طغت" وأصبحت صنمًا يزاحم الولاء لله. دور الناهض هنا هو "تحييد" هذه المفاهيم، أي إعادتها إلى حجمها الطبيعي ووضعها تحت مظلة المفهوم الأعلى وهو "التوحيد".
3. الاستبدال : وهناك مفاهيم فاسدة من أصلها، كعبادة الجماد أو "الشره الاستهلاكي" أو "التجزيء" المخل بالتوحيد. وهنا، لا ينفع الترقيع، بل لا بد من "استبدالها". فالناهض يجاهد ليستبدل "اليقين" بالجماد بـ "اليقين" بالله، ويستبدل "منهج التجزيء" بـ "الرؤية التوحيدية" الشاملة.
غاية المجاهدة: الإحسان، وثمرتها: الهداية والمعية
إن هذه المجاهدة المستمرة في "هندسة المفاهيم" هي في حقيقتها "طريق الإحسان"؛ فالإحسان هو السعي الدائم لاكتشاف أوجه القصور والاجتهاد في تجاوزها. والناهض، بسعيه الدائم هذا، يدخل في زمرة "المحسنين".
وحينها، يتحقق الوعد الإلهي المزدوج في الآية:
الوعد الأول: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾: فالله لا يهديه فقط إلى "السبيل" الواحد، بل إلى "سبل" متعددة ومتنوعة تناسب كل تحدٍ جديد. وكما يشير الماتريدي، فإن الله "يهدي كلا سبيلا"، فيفتح للمجاهد في العلم سبل الفهم، وللمجاهد في الدعوة سبل التأثير.
الوعد الثاني: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾: وهذه هي الضمانة الكبرى. إنها "المعية الخاصة" التي هي، كما يقول الماتريدي، معية التوفيق والنصر والحفظ. وقد تبدو هذه المعية أحيانًا، كما يوضح البقاعي، في صورة "ضعف" ظاهري، حيث "يستر الله غناهم بساتر فقر، حماية لهم من الطغيان".
فالناهض الذي يجعل منطلقه ومرتكزه ومقصده "في الله"، ويجاهد في "شبكة المفاهيم" تجديدًا وتحييدًا واستبدالاً، واضعًا نصب عينيه مقام "الإحسان"، هو من وعده الله بالهداية إلى كل السبل النافعة، وبالمعية التي لا تُغلب.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.