يعيش الإنسان حياته وهو في "معركة وجود" مستمرة، وفي خضم هذه المعركة، يقوم عقله بعملية "غزل" دؤوبة؛ يلتقط "معاني" متناثرة من تجاربه وقراءاته، فيفتلها ويحولها إلى "مفاهيم" راسخة. هذه المفاهيم ليست أفكارًا محايدة، بل هي قوى فاعلة في أعماق النفس: فإما أن تكون "حوافز دافعة" كالاستخلاف والوفرة تدفعه للعمران، أو تكون "كوابح مانعة" كالخوف والندرة تشل حركته.
هذه "الكوابح" هي "أقفال" حقيقية توضع على القلب، تمنعه من التجاوب الحق مع الوجود. فما هو المفتاح الذي يكسر هذه الأقفال؟ يأتي القرآن الكريم ليقدم "السؤال التشخيصي" والجواب الشافي في آية واحدة من سورة محمد:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24)
تشخيص "الأقفال": ظلمة الكفر وبصمة الهوى
حين يغفل القلب عن التدبر، فإنه يبدأ بصناعة "أقفاله" الخاصة. وهذه الأقفال، كما يصفها الماتريدي رحمه الله، هي "ظلمة الكفر التي تغطّي نور البصر ونور السمع"، والتي قد تتراكم لتصبح "طبعًا" على القلب. إنها "المفاهيم الكابحة" التي تتراكم كـ "ظلمات بعضها فوق بعض" حتى تحجب نور الحق تمامًا.
والعجيب في هذه الأقفال، كما يلفت انتباهنا ابن القيم رحمه الله، هو بلاغة تعريفها بالإضافة ﴿أَقْفَالُهَا﴾. فهي ليست أقفالاً نمطية، بل هي "أقفالها المختصة بها، التي لا تكون لغيرها". فلكل قلب منحرف "قفله" الخاص المصنوع على مقاس هواه ومرضه. فالمفاهيم التي تقفل القلوب هي "صناعة شخصية خالصة، كبصمة الأصبع".
"التدبر": مفتاح الفتح ومنهج الجلي
في مقابل "الداء" (الأقفال)، تضع الآية "الدواء" الوحيد: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾. التدبر ليس مجرد قراءة، بل هو "عملية جلي" مستمرة لصدأ القلب.
وهو ليس "خيارًا" نتركه، بل هو "واجب عقلي" نُسأل عنه. وكما يرى الطوسي، فإن الاستفهام هنا هو "توبيخ" وتحميل للمسؤولية، فهو ينبه إلى أن الله لم يخلق على القلوب أقفالاً تمنعها ابتداءً، بل "ليس عليها ما يمنع من التدبر والتفكر". فالأقفال هي "صناعة اختيارية"، والتدبر هو "القرار الاختياري" لكسرها.
وغاية هذا التدبر، كما يبين الإمام القشيري، ليست مجرد المعرفة، بل هي الوصول إلى "العرفان" بالله، الذي "يريحهم من ظلمة التحير" ويملأ القلب باليقين.
ثمرة التدبر: استيراد "المواد الحافظة" للوعي
إن القلب "المفتوح" بنور التدبر هو وحده القادر على "التفاعل الإيجابي" مع الوجود. فالتدبر يكسر "الكوابح المانعة"، ويزرع مكانها "الحوافز الدافعة" المستمدة من الوحي. إنها عملية "استيراد لمعانٍ فطرية" من مصدرها النقي (القرآن) لإعادة إحيائها في القلب. وهذه المعاني القرآنية، حين تدخل في "عملية غزل المفاهيم" لدى الناهض، فإنها تعمل "كمواد حافظة"؛ تحفظ نسيجه الفكري من "عطب" الشبهات، و"عفن" الأهواء، و"تآكل" ضغط الواقع. وهذا هو الذي يحول الإنسان من كائن "مقفل"، سلبي ومنعزل، إلى "ناهض" فاعل ومؤثر في العمران.
خاتمة: من "القلب المقفل" إلى "القلب السليم"
إن المعركة الحقيقية للناهض هي "معركة مفاهيم" في أعماق النفس. ودعوته هي دعوة الناس ليستخدموا "مفتاح" التدبر لكسر "أقفالهم" التي صنعوها بأيديهم. وعلى الناهض أن يجعل من ورده اليومي "عملية جلي" مستمرة لقلبه، يطعم بها نسيجه الفكري بـ "المواد الحافظة" للوحي. فالغاية من كسر "أقفال" سورة محمد، هي الوصول إلى حالة "القلب السليم" التي مدحها الله في سورة الصافات، والتي هي شرط الفلاح يوم الدين.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.