استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مدارج الصفاء ومعارج النقاء


يقرِّر القرآن الكريم بجلاءٍ أنّ فلاح الإنسان منوطٌ بتزكية روحه، وأن خيبته مقرونةٌ بتدنيسها، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. وهذه الحقيقة القرآنية تفيد أنّ عملية التزكية لا تتحقق فجأةً، ولا تتم بين عشية وضحاها، وإنما هي مسارٌ ممتدّ، قائمٌ على التدرج والتراكم، تُبنى لبناته بالصبر والمثابرة، وتُسقى بماء الذكر والمراقبة والخلوة.
فالتزكية ليست مجرد إزالةٍ للآفات، بل هي أيضاً تنميةٌ للفضائل، وإغناءٌ لمقومات الروح. وكما أنّ التلوث ينكمش بالروح ويصغّر قوامها، فإن التزكية تبسط أبعادها وتسمو بها، حتى تغدو عاليةَ المقام بين الأرواح، ذاتَ قَدْرٍ ومهابة. الأرواح الطاهرة تشعّ نوراً، وتزهر بهاءً، وتترقّى إلى مراتب عليين، بينما الأرواح الملوثة تهوي إلى أسفل سافلين، وتنطوي في أغوار سجين، تعاني ذلّ الخطيئة وخسّة المعصية.
ويقوم مشروع تزكية الروح على أركانٍ أساسية، في مقدمتها: الذكر، والخلوة، والمراقبة. وأدنى ما يُقترح في برنامجه ساعةٌ كاملةٌ يومياً تُفرَّغ للروح، يتخللها ذكرٌ لله تعالى، وصلاةٌ على النبي ﷺ، وتلاوةٌ متدبِّرةٌ لآياتٍ مختارةٍ من القرآن الكريم، وفي طليعتها سورة الفاتحة وسورة الإخلاص. وتؤدّى هذه الأوراد في جوٍّ من الهدوء والانعزال، مع استقبال القبلة، والجلوس على الأرض فوق سجادة الصلاة، لما في ذلك من استحضار الأدب وكمال التوجّه.
ويمكن أحياناً أن تكون الجلسة على الفراش، شريطة مراعاة استقبال القبلة، وقد جُرِّب هذا في ليالي الصفاء حيث يصفو الجوّ، ويخلو القلب، وتتهيأ الروح لتلقّي أنوار الذكر. ومن تجارب السلف الصالح أن بعضهم كان يحيي ليله بالذكر حتى الفجر، مستأنساً بالوحدة مع الله، غير ملتفتٍ إلى شواغل الناس.
أما طلاب المقامات العليا، فإنهم يوسّعون هذا البرنامج إلى ساعتين متواصلتين، إذ القرب الخاص لا ينال إلا ببذلٍ زائد، ومثابرةٍ دائمة، وقد كان خيار السلف يقدّرون هذا المشروع حقّ قدره، فيجعلونه محور حياتهم.
والجسد في هذا التصوّر إنما هو أداة، والروح هي المقصود، والمقصود الأعظم هو ترقية الروح وتنقيتها، حتى تبلغ غايتها في معرفة ربها والأنس به. فالأرواح الغارقة في الكفر والمعصية ذليلةٌ ساقطة، لا سبيل لها إلى العروج، بينما الأرواح المؤمنة العاملة محلّقةٌ في آفاق المَلأ الأعلى، مستقرّها في عليين.
وللذكر في هذا المشروع ضوابط: أن يواطئ فيه اللسانُ العقلَ والقلبَ معاً، وأن تكون المعاني حاضرةً في الذهن، مستحضَرةً في الوجدان. وسورة الفاتحة وسورة الإخلاص منبعان لا ينضبان من المعاني واللطائف، ومن تدبّرهما وداوم على ذكرهما وجد في قلبه معارج القرب.
ولا غنى في ذلك عن النيّة، فهي التي تضاعف أثر العمل، وتوسّع دائرته، كما كان الأئمة الربانيون يعلّمون أن أدنى عملٍ إذا احتُشدت له النيات تحوّل إلى عملٍ عظيم الأثر.
وأما الصلاة على النبي ﷺ، فحقيقتها أن يستشعر الذاكر مقامه الشريف، وأن يعيش حالة القرب القلبي منه، حتى يغدو حضوره في وجدان المحب حضوراً دائماً، وإن لم يكن حضوراً حسياً. وسورة الإخلاص تكشف عن شواهد التوحيد، وتفتح منافذ القلب لتذوق لذّة الوصال.
هكذا يبلغ مشروع تزكية الروح ذروته، حين يتحوّل القلب إلى محورٍ لتيارات الذكر، يضخّ في الروح دماء النقاء، فتغتسل بماء الصفاء، وتترقى في مدارج النور، وتعيش في آفاق العلوّ والسموّ.


✍🏻 الدكتور أبو خالد القاسمي، خريج دار العلوم ديوبند الهند

1 comment

  1. شکرا جزیلا ۔ جزاکم اللہ خیرا
أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.