إنها الكلمة الأولى في رحلة الوحي، والنشيد الذي يفتتح به أهل الجنة نعيمهم، والمفتاح الذي نبدأ به كل أمر ذي بال. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ليست مجرد عبارة ثناء، بل هي "بوابة" الوجود القرآني، و"بوصلة" تضبط مسيرة الناهض كلها، من "المنبع" الذي انطلق منه إلى "المصب" الذي يسعى إليه. إنها "منهج تربوي" متكامل، يبدأ بالحمد، ويستغرق كل شيء، وينشرح له كل شيء.
"الحمد" كموقف معرفي ووجداني
إن الحمد ليس مجرد شكر سطحي، بل هو "موقف كلي" يقوم على وعي شامل. وكما يوضح الطبري، فإننا نحمده على نعم لا تحصى: نعمة "الإيجاد" في الخلق، و"الإمداد" بالرزق، و"الإرشاد" للهداية. وهذا الحمد، حين يصدع به اللسان، فهو ليس مجرد فعل فردي. فسر "الألف واللام" في ﴿الْحَمْدُ﴾، كما يوضح الطبري والحرالي، أنها لـ "استغراق جميع المحامد" والدلالة على "الكمال". فكأنك حين تقولها، فإنك تنطق باسم كل حامد في الكون، وتقر بالحمد الكامل الذي لا يستحقه إلا من له الكمال المطلق.
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: "مغزل التربية" المنسجمة مع الكون
إن صفة ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي التي تحول "الحمد" من مجرد ثناء إلى "منهج تربوي". فالرب، كما يقول الطبري، هو "السيد المطاع، والمصلح، والمالك". والخضوع لربوبيته هو خضوع لمنهج تربوي غايته "الإصلاح". وبما أن ربوبيته تشمل "كل العوالم"، فإن تربيته لنا تجعلنا "منسجمين" مع المنهج الذي يسير عليه الكون كله. هذه التربية الربانية هي "الموصل لكل خير" و"الهادي إلى صراط مستقيم".
من "الحمد" إلى "الفلاح": رحلة الفاتحة والبقرة
إن هذا "المنهج التربوي" هو الذي يفرز الناس إلى فريقين. فمن يطلب "الهداية" بصدق في الفاتحة، يأتيه الجواب في مطلع البقرة: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۖ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾. وهؤلاء "المتقون"، هم الذين وصفهم القرآن بأنهم ﴿...أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وفي مقابلهم، يقف فريق الخسران: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ...﴾.
إن "الصراط المستقيم" ليس طريقًا موحشًا، بل هو سبيل "موكب نوراني" عظيم بدأ مع آدم، وقاده الأنبياء والصالحون، وهم "الذين أنعم الله عليهم".
خاتمة: دعاء يجمع بين المنبع والمصب
إن "الحمد لله رب العالمين" هي بحق "شبكة مفاهيم" متكاملة. والتطبيق العملي اليومي لهذا المنهج يتجلى في دعاء الاستيقاظ من النوم: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".
فهذا الدعاء يجسد فلسفة الحمد الكاملة:
"الحمد لله الذي أحيانا": هو حمد على "المنبع" ونعمة الحاضر.
"وإليه النشور": هو استحضار لـ "المصب" والعاقبة والمستقبل.
فالناهض الذي يبدأ كل أمره بـ "الحمد" الواعي، هو الذي "يتشرب" من هذا المنبع الصافي معاني هي كـ "خيوط قوية دقيقة، ينسج منها نسيج شخصيته". فلا تكون خيوط آماله، كتلك "الخيوط الرقاق بلون الدخان" التي تصف ضياع الإنسان المعاصر، بل تكون خيوطًا متينة تبني له شخصية قادرة على السير على "الصراط المستقيم"، ليصل إلى غايته بتوفيق من الله وهدايته.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.