استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

القرآن دستور الحياة، تركه ذل والعمل به عز


           القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل المعجز، أنزله على خاتم أنبيائه، وسيّد رسله، وإمام المرسلين محمّدٍ المصطفى ﷺ، بوساطة الوحي، ليكون هدايةً دائمةً للبشرية جمعاء. هو نور الهداية المسطور في اللوح المحفوظ منذ الأزل، الذي لا يتطرّق إليه تحريفٌ ولا تبديل، ولا تناله وساوس الشياطين ولا أباطيل المبطلين. تكفّل الله جلّ وعلا بحفظه بنفسه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، فليس في مقدور قوّةٍ من قوى الأرض أن تغيّر حرفًا واحدًا منه. هو صفةٌ من صفات الله، لا مخلوق من مخلوقاته، وكيفيته وحقيقته فوق إدراك العقول، لكننا نؤمن به إيمانًا وتصديقًا جازمًا أنّه محفوظ في السموات العُلا، محكمٌ كأحكام الملأ الأعلى، ثابت لا يتغيّر ولا يتبدّل.
          لفظ "القرآن" مشتقّ من مادّة "قرأ" أي: تلا وقرأ (المنجد: ٦١٣). والحقّ أنّه أَكثرُ الكتب تلاوةً على وجه الأرض؛ تتردّد آياته على ألسنة الملايين في الليل والنهار، بالخشوع والدموع تارةً، وبالتغنّي والتحبير أخرى، سواءً أدرك القارئ معانيه أم لم يُدركها. وقد سمّى الله كتابه بالقرآن، فقال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ [البروج: ٢١]. ونزله بلسانٍ عربيٍّ مبين ليعيه أوائل المخاطَبين، وليتولَّوا تبليغَه لمن بعدهم، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢]. وهو كتابٌ أنزل هدايةً للعالمين إلى يوم القيامة، لكنه لا يهتدي بنوره إلا من كان في قلبه خشيةٌ من الله ورغبةٌ صادقة في الحقّ، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
          وأمّا نزول الوحي فقد كان من أعظم مظاهر الإعجاز. فتارةً يأتي بصوتٍ كصلصلة الجرس وهو أشدّه على النبي ﷺ، حتى يتصبّب جبينه عرقًا. وتارةً ينزل جبريل في صورة رجلٍ – كثيرًا ما كان في صورة دحية الكلبي – فيبلّغ الرسالة. وأحيانًا يراه النبي ﷺ في هيئته الملكية، كما وقع مرّتين. ومرّةً كلّم الله نبيَّه بلا واسطة في ليلة المعراج، وفُرضت الصلاة في ذلك المقام. وربما كان الوحي يُلقى مباشرةً في قلبه الشريف دون وساطة رؤية. (فتح الباري ١/١٨، تاريخ نزول القرآن: ٢٦).
           وكان إنزال القرآن أولاً دفعةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل مفرّقًا خلال ثلاثٍ وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث. فأوّل ما نزل صدر سورة العلق في غار حراء، ثم فتر الوحي ثلاث سنين، ثم نزلت أوائل سورة المدثر، واستمر حتى وفاة النبي ﷺ. (المرشد الوجيز ص: ٣٣-٣٥، مع القرآن الكريم ص: ١٨).
         ولحفظ القرآن هيّأ الله تعالى أسبابًا لم تتهيّأ لكتابٍ قبله. أوّلها الحفظ غيبًا. كان النبي ﷺ يردّد الآيات حين تنزل خشية أن ينساها، فنزل قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٧]. ثم كان مدارسة جبريل له في رمضان كل عام، وفي العام الأخير مرّتين. وكان الصحابة يحفظونه بشغفٍ، يقومون به في الليل، ويتسابقون في تلاوته وضبطه. ومع الحفظ اعتنوا بالكتابة، فكان كتبة الوحي يكتبون الآيات فور نزولها على العُسب واللخاف والرقاع والعظام. ومن أبرزهم: زيد بن ثابت، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزبير بن العوام، ومعاوية وغيرهم. (تفسير ابن كثير ٧/٢١٨، جامع البيان ١٧/٦٨).
           وفي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبعد وقعة اليمامة حيث استُشهد جمعٌ من الحُفّاظ، أشار عمر بجمع القرآن في مصحفٍ واحد. فكلّف أبو بكر زيد بن ثابت بالمهمّة، فجمعه بالتثبّت من الحفظ والكتابة والتواتر، حتى اجتمع بين دفّتين. ثم في عهد عثمان رضي الله عنه لما اتّسعت الفتوح وظهرت اختلافات في القراءات، أمر بجمع الأمة على مصحفٍ واحدٍ هو الإمام، وأرسل منه نسخًا للأمصار، وأمر بإحراق ما سواه، فتوحدت القراءة، وحُفظت وحدة الأمة. ثم أُلحقت به النقط والإعجام وعلامات الأحزاب والأجزاء تيسيرًا على القُرّاء. (المنار في علوم القرآن ص: ١٥١، جمع القرآن حفظًا وكتابة ص: ١١).
       أما فضل القرآن فهو عظيم. قال النبي ﷺ: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة» (البخاري ٤٩٣٧). وقال ﷺ: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» (أبو داود ١٤٦٤). بل يُكرم والدا الحافظ بتاجٍ من نورٍ يضيء أعظم من ضوء الشمس. (أبو داود، كتاب ثواب قراءة القرآن).
       لكن فهم القرآن لا يتمّ إلا ببيان النبي ﷺ وتفسيره، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤]. فالسنّة هي المفسِّرة للقرآن، وهي التي تبين مجمله وتفصّل مجازه وتوضح أحكامه. ومن الصحابة والتابعين تناقلته الأمة بالسند الصحيح حتى اليوم.
       هذا الكتاب العظيم كان وما زال منذ نزوله منار هداية للبشرية. ففيه العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات، والسياسة والاقتصاد، والدنيا والآخرة. ومع ذلك فإن المسلمين اليوم قد هجروه إلا من رحم الله؛ فهو في الرفوف مزخرف، وفي الحياة معطَّل. قلّت التلاوة، وغاب التدبّر، وضعف العمل. وصدق شاعر الإسلام محمد إقبال إذ قال: كان المسلمون أعزّةً بالقرآن،
فلما تركوه صاروا أذلّةً وهانوا.
        إننا نجتهد في تعليم أبنائنا علوم الدنيا، فنحرص على المدارس والمناهج والمشاريع، لكننا نقصّر في تعليمهم كتاب الله، وهو الذي أجرُه على كل حرف، وبه فلاح الدارين. فالواجب أن نربط أنفسنا وأجيالنا بالقرآن والسنة، وأن نتعلم معانيه وأحكامه على أيدي العلماء، ونجعل حياتنا على هدي المصطفى ﷺ، فهذا هو سبيل النجاة والفلاح.

أقوال العلماء في شأن القرآن:
           قال الفضل الرقاشي رحمه الله: «ما تلذّذ القلب بشيءٍ مثل تلذّذه بالقرآن إذا تُلي بصوتٍ حسن، فمن لم يلن قلبه لتلاوة القرآن فهو قلبٌ ميّت، ومن لم تدمع عينه عند سماعه فهي عينٌ غافلة» (حلية الأولياء ٦/٢٠٧). وقال سلام بن مسكين: «مرضكم ذنوبكم، ودواؤكم الاستغفار» (التوبة لابن أبي الدنيا ص ٨٩).
        وقال الإمام الشافعي: «من تعلّم القرآن عظُم قدرُه، ومن طلب به الدنيا قلَّت قيمته» (الآداب الشرعية ١/٢٦٦). وقال حذيفة رضي الله عنه: «يا معشر القرّاء! استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا أو شمالاً لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا» (حلية الأولياء ٩/٢١٨).
           وقال مجاهد: «القرآن يلازم صاحبه ما دام يتبعه، فإذا ترك العمل به تبعه القرآن ولحقه بالتبعة» (صفة الصفوة ١/٤١٣). وقال مُعضَد: «لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وطول قيام الليل، والتلذذ بقراءة القرآن، ما باليت أن أكون أميرًا أو لا» (فضائل القرآن لأبي عبيد ص ١٢٨).
         وقال يزيد بن تميم: «من لم يردعه القرآن ولا الموت فلا ردع له» (الزهد للإمام أحمد ص ١٣٨). وقال الشعبي: «اقرؤوا القرآن بقلوبكم وأسماعكم، فإن السمع بين اللسان والقلب» (الزهد لابن المبارك ص ٤٢٢).
           وسُئل ذو النون المصري عن الأنس بالله، فقال: «هو بالعلم والقرآن» (حلية الأولياء ٩/٣٧٧). وقال بعضهم: «القرآن رسائل ربّنا إلينا، نتدبرها في الصلاة، ونعمل بمقتضاها في الطاعة» (موعظة المؤمنين ص ٨٠).
         وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: «ما أحبّ أن يمرّ يومٌ عليّ لا أنظر فيه في عهد الله» يعني القرآن. (البداية والنهاية ٧/٢٢٥).
             فنسأل الله تعالى أن يرزقنا حبّ القرآن، وتدبر معانيه، والعمل بأحكامه، والدعوة إليه، وأن يجعلنا من أهله وخاصته، وأن يظلّنا بظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه. آمين.


✍🏻 أبو خالد بن ناظر الدين 
خريج دار العلوم ديوبند الهند 

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.