في عصر أصبحت فيه "الصور" هي معيار القيمة، و"التسويق" هو طريق التأثير، يواجه الناهض فتنة حقيقية. كثيرًا ما ينبهر بالمؤهلات اللامعة والمظاهر البراقة، فيسعى لجذب أصحابها، ظنًا منه أن قوة مشروعه تكمن في "تسويق" هذه الصور. ولكن في هذا الانبهار يكمن انحراف خطير عن المنهج الرباني الذي لا يقوم على تلميع الظواهر، بل على "صدق الجوهر" الذي يفتح القلوب.
وفي قلب سورة الأنعام، يأتي توجيه إلهي مباشر ليُحدث "ثورة في مفهوم المفرزة"، ويقدم للناهض "الميزان" الحقيقي الذي به يقيم الرجال ويبني جماعته، في آية هي دستور هذا الشأن:
﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 52)
"المفرزة المعكوسة": لا تطرد الصادقين
لقد نزلت هذه الآية في سياق "فتنة" اجتماعية، حين طلب أشراف قريش من النبي ﷺ أن يطرد الفقراء الصادقين من مجلسه. لقد كانوا يطالبون بـ "مفرزة معكوسة" تقوم على "ميزان الجاهلية" (الصور والأموال). فجاء الأمر الإلهي الحاسم ﴿وَلَا تَطْرُدِ...﴾ ليس فقط لحماية هؤلاء الفقراء، بل ليرفض الميزان الجاهلي رفضًا كاملاً، وليعلن أن التمسك بالصادقين هو الذي سيطرد المتكبرين بطبيعته. وكما يوضح الطبري، فإن هذا الموقف كان اختبارًا ﴿وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ ليكشف مكنونات القلوب.
"الميزان الرباني" ومعيار القبول الحقيقي
في مقابل ميزان "الصور"، تضع الآية "ميزان الجوهر" الذي به تُبنى "النواة الصلبة" لأي مشروع رباني. وهذا الميزان له ركنان:
ديمومة العمل الصالح: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾. وكما يشير الإمام الماتريدي، فإن هذا قد يكون "كناية عن الليل والنهار جملة"، مما يدل على أنهم في حالة عبادة واتصال دائم. وهذا "الدعاء"، كما يوسع الطبري مفهومه، لا يقتصر على الذكر، بل يشمل "العمل له بالجوارح"، مما يفتح الباب لربط العبادة بـ "العمران". فالطبيب المخلص في عيادته والمهندس المتقن في ورشته، كلاهما من الذين "يدعون ربهم" بعمل جوارحهم.
صدق القصد (التوحيد): ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾. وهذا هو المعيار الحاكم. فكل عمل، مهما عظم، لا قيمة له إن لم يكن القصد منه "وجه الله". وهذا تمامًا ما يجسده الحديث النبوي الشريف: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".
"فقه الظلم" في قيادة الدعوة
ثم يأتي التحذير الإلهي المهيب: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. إن الظلم هنا ليس مجرد اعتداء، بل هو "خلل في الموازين". وكما يلخصه الطبري، هو أن "تقصي وتطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وتقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه". ويغوص الإمام الماتريدي إلى عمق هذا الظلم في سياق القيادة، فيعتبره "وضع الحكمة في غير أهلها". فالقائد الذي يخطئ في تقييم رجاله بناءً على "الصور" بدلاً من "الجوهر"، هو قائد يفتقر إلى الحكمة، ويقع في الظلم الذي يهدم مشروعه من أساسه.
خاتمة: من "الانبهار بالصور" إلى "التمسك بالجوهر"
إن هذه الآية تقدم "ثورة" كاملة في منهج بناء الجماعات، وتعيد ترتيب الأولويات. وهذا لا يعني أبدًا إلغاء "المؤهلات" الدنيوية أو الزهد في الكفاءة، فالإسلام يرحب بالقوة والمال والعلم.
ولكنه يضع "المعيار الحاكم" الذي لا يُعلى عليه: صدق التوجه إلى الله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾. هذا المعيار لا يلغي المعايير الأخرى، بل "يقويها ويوجهها". فالمال في يد من يريد وجه الله يصبح قوة إنفاق في سبيل الله. والعلم في عقل من يريد وجه الله يصبح حجة وبيانًا للحق. والكفاءة لدى من يريد وجه الله تصبح إتقانًا وإحسانًا يخدم العمران.
فالقوة الحقيقية للمشروع لا تكمن في "مؤهلات" أفراده مجردة، بل في خضوع هذه المؤهلات لبوصلة "الجوهر" النقي. إن الجماعة التي تقوم على ميزان ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ هي الجماعة التي لا تُهزم، لأنها تستمد قوتها من الله مباشرة، وتوجه كل طاقات أفرادها نحو غاية واحدة مباركة. إنها تمد مجتمعها بتربية وصناعة رجال ونساء من طينة خاصة.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.