إن من أخطر آفات الإنسان، فرداً كان أم حضارة، أن يقوم بأعظم "الأفعال" في الظاهر، بينما تكون هذه الأفعال "مجردة" من "القيم" و"الروح" في باطنها. هذه "الآفة"، التي نراها اليوم متجسدة في الحضارة المادية الحديثة، ليست جديدة، بل هي مرض إنساني قديم، وقد قدم لنا القرآن الكريم "التشريح النموذجي" الأول لهذه الحالة في قصة "ذبح البقرة". ففي ختام تلك القصة المليئة بالمراوغة والتنطع، تأتي جملة قرآنية معجزة، هي بمثابة "أشعة كاشفة" لجوهر "الفعل الأجوف":
﴿...فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ (البقرة: 71)
هذه الجملة لا تصف مجرد "فعل"، بل تصف "أزمة" كاملة في العلاقة بين "الفعل" و"قيمته". وباستخدام "مغزل" الحكماء المعاصرين كطه عبد الرحمن، يمكننا أن نحلل كيف يجرد "العقل المجرد" الأفعال من قيمها، تمامًا كما فعل بنو إسرائيل.
"التفكير" مقابل "التفكر": (تجريد العقل)
إن "تنطع" بني إسرائيل في الأسئلة عن "لون" البقرة و"سنها" لم يكن "تفكرًا" في حكمة الأمر الإلهي، بل كان "تفكيرًا ماديًا مجردًا". وكما يفرق الحكماء، فإن "التفكر" يربط الظواهر بالخالق ويبحث عن الحكمة، أما "التفكير المجرد" فيحلل الظواهر ويفصلها عن أي غاية أسمى. لقد تعاملوا مع نبيهم، كما يوضح الإمام ابن عاشور، كـ "تلميذ يمتحنونه" في معرفته بـ "أغراضهم الدنيوية". وهذا هو قمة "التفكير المجرد" الذي يفرغ التكليف من هيبته.
"الظاهرة" مقابل "الآية": (تجريد الحدث)
حين حدثت المعجزة الكبرى بعد الذبح، وهي "إحياء القتيل"، لم يؤثر ذلك في قلوبهم. لماذا؟ لأن "العقل المجرد" لا يرى "آيات" تحمل رسائل، بل يرى "ظواهر" مادية صماء. هم رأوا "ظاهرة" غريبة، ولم يروها "آية" تدعوهم للإيمان والتواضع. والنتيجة الحتمية لهذه الرؤية المجردة كانت: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ...﴾. فالقلب الذي يرى المعجزات كـ "ظواهر"، لا يلين، بل يزداد قسوة.
"العقود" مقابل "المواثيق": (تجريد الالتزام)
إن الأمر الإلهي في جوهره هو "ميثاق" بين الله وعبده، له "قدسية" و"هيبة". ولكن "العقل المجرد" يجرد هذا "الميثاق" من قداسته، ويحوله إلى مجرد "عقد مصلحي" يمكن التهرب منه. وهذا ما فعله بنو إسرائيل: لقد تعاملوا مع "ميثاق الطاعة" كـ "صفقة"، فبحثوا عن كل السبل للمراوغة والتشدد، لا كـ "عهد" مقدس يجب الوفاء به فورًا. والنتيجة الحتمية لهذا التعامل هي "الفعل الأجوف"، فعل من لا يشعر بقدسية الالتزام، وهو ما لخصه القرآن بكلمتين: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾.
خاتمة: "الإذعان" كروح للفعل
إن "آفة الحضارة الحديثة"، تمامًا كآفة بني إسرائيل، هي "الفعل المجرد من القيم" الناتج عن هيمنة "العقل المجرد". والناهض مدعو لأن يحذر من هذا "التجريد"، وأن يعيد "الروح" إلى أفعاله. فالعمران الحقيقي لا يقوم على "كمية" الأفعال، بل على "جودة" الأفعال. والجودة لا تكون إلا حين يكون الفعل ممتلئًا بـ "قيمة إذعان القلب والجوارح لله"، فيكون "تفكرًا" لا "تفكيرًا"، ويُرى فيه "آية" لا "ظاهرة"، ويُلتزم به كـ "ميثاق" لا كمجرد "عقد".
لمزيد وضوح الرجوع إلى مقدمة كتاب السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي، طه عبد الرحمن.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.