لمعرفة الأحكام التفصيلية للميراث يُراجَع كتاب "السِّراجِي في الميراث" وهو من أشهر كتب النظام الدراسي.غير أنّي في هذا المقام لا أتكلّم عن تفاصيل الفرائض، بل أبحث في مسألةٍ مهمّة: هل ظُلِمت المرأة في حقّ الميراث حيث قُسِم لها نصفُ ما للذكر؟
إنّ جميع أحكام الشريعة الإسلامية مبنى على العدل، والعدلُ هو وضع الشيء في موضعه: فيُراعى جانبُ الكفاءة عند تحديد المسؤوليات، ثم تُجعل الحقوقُ بحسب المسؤوليات. وقد يقتضي العدلُ المساواةَ أحيانًا، وأحيانًا التفاوت في الأنصبة. وقانون الميراث في الإسلام على هذا الأصل.
وكثيرًا ما يُقال إنّ الرجلَ قد أُعطي ضِعفَ المرأة، وهذا غير صحيح بإطلاق. فلننظر إلى أصحاب الفروض الذين ذكرهم القرآن والسنّة، وعددهم اثنا عشر شخصًا: ثمانية منهنّ نساء، وأربعة فقط رجال.
فالنساء هنّ: (١) الزوجة، (٢) البنت، (٣) بنت الابن، (٤) الأخت الشقيقة، (٥) الأخت لأب، (٦) الأخت لأم، (٧) الأم، (٨) الجدة.
والرجال هم: (١) الأب، (٢) الجد، (٣) الأخ لأم، (٤) الزوج.
فإذا تأمّلنا وجدنا أنّ الشريعة أعطت للنساء عددًا أكبر من الرجال، أي أنّ النساء أكثر نصيبًا في استحقاق الميراث.
ثم إنّ أنصبة الميراث في القرآن ستة: الثلثان، النصف، الثلث، الربع، السدس، الثمن.
تفضيل المرأة في بعض الفروض-
(أ) أكبر هذه الأنصبة هو الثلثان، ولم يُعطَ هذا النصيبُ إلا للنساء: كالبنات إذا تعددن، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب. فلا يوجد رجل يأخذ هذا النصيب الكبير. وبهذا وضح أنّ الإسلام أعطى المرأة أكثر.
أما الحالات التي تأخذ فيها المرأة نصف الرجل فهي ثلاث صور فقط تُعطى فيها المرأة نصفَ الرجل:
١- إذا ورث الإخوة مع الأخوات، وذلك في أربع حالات:
إذا اجتمع الابن مع البنت.
أو ابن الابن مع بنت الابن.
أو الأخ الشقيق مع الأخت الشقيقة.
أو الأخ لأب مع الأخت لأب.
٢- إذا ورث الزوجان أحدهما الآخر:
فإن كان للميت ولدٌ، فللزوج الربع، وللزوجة الثمن.
وإن لم يكن ولدٌ، فللزوج النصف، وللزوجة الربع.
٣- إذا ورث الأب والأم فقط ولا وارث غيرهما: للأم الثلث، وللأب الثلثان بصفته عصبية.
المساواة بين نصيب الذكر والأنثى-
وفي حالات كثيرة يتساوى الرجل والمرأة:
إذا خلّف الميت ولدًا وأبًا وأمًّا: فلكل من الأب والأم السدس.
إذا ترك الميت بنتين فقط: فلهما الثلثان، وللأب والأم السدس.
إذا خلّفت المرأة أبًا وابنًا وجدّة: فلكلٍّ من الأب والجدّة السدس.
الإخوة لأم والأخوات لأم: أنصباؤهم متساوية دائمًا.
أحيانًا يرث الرجل جميع التركة إذا انفرد، وكذلك ترث المرأة جميع التركة إذا انفردت: فلو مات الميت وترك أبًا فقط فالأب يأخذ الباقي تعصيبًا، ولو ترك أمًّا فقط فلها الثلث فرضًا والباقي ردًّا، ولو ترك ابنًا واحدًا فله جميع المال، ولو ترك بنتًا واحدة فلها النصف فرضًا والباقي ردًّا.
تفضيل نصيب المرأة على نصيب الرجل:
وفي بعض الحالات يكون نصيب المرأة أكبر من نصيب الرجل، كالبنت فإنها من أصحاب الفروض، وقد تأخذ النصف أو الثلثين، أمّا الابن فليس له نصيب مقدَّر، وإنما يأخذ الباقي تعصيبًا، وقد يكون أقل من نصيب البنت.
مثلا:
امرأة تركت ستين فدانًا من الأرض، وخلّفت زوجًا وأبًا وأمًّا وبنتين: فللبنتين ستة عشر فدانًا لكلٍّ منهما. ولو كانتا ابنَين بدل البنتين لأخذ كل واحد اثني عشر فدانًا ونصفًا فقط.
ومثال آخر: امرأة تركت ١٥٦ فدانًا، وخلّفت زوجًا وأبًا وأمًّا وبنتًا: فللبنت ٧٢ فدانًا، ولو كان ابنًا بدلها لأخذ ٦٥ فدانًا فقط.
انفراد المرأة بالميراث دون الرجل:
بل توجد حالات لا يرث فيها الرجل، بينما ترث المرأة.
فلو خلّفت الميتة زوجًا وأبًا وأمًّا وبنتًا وبنت ابن: فللبنت السدس تكملة الثلثين، ولو كان مكانها ابنُ ابن فلا شيء له.
وكذلك لو خلّفت زوجًا وأختًا شقيقة وأختًا لأب: فللأخت لأب السدس، ولو كان مكانها أخٌ لأب فلا شيء له.
وكذلك قد ترث الجدة ولا يرث الجد في بعض الصور.
إذن توجد ثلاثون حالة – كما حقّقه الدكتور صلاح الدين سلطان في كتابه "ميراث المرأة وقضية المساواة" – تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر أو تنفرد بالميراث، ولا توجد إلا أربع حالات فقط يكون نصيبها نصفَ الرجل. ومن نظر في ذلك تبيّن له أنّ القول بأنّ الإسلام ظلم المرأة في الميراث محضُ وهم، بل إنّ النقص في بعض الصور جاء مراعاةً لمسؤوليات الرجل ونفقاته الواجبة.
حكمة التفضيل في بعض الصور:
قال الإمام شاه ولي الله الدهلوي في "حجّة الله البالغة" (٢/٣٧٤): أنَّ الذكَرَ يُفَضَّلُ على الأنثى إذا كانا في منزلة واحدة أبدًا؛ لاختصاص الذكور بحماية البيضة والذب عن الذِّمار؛ ولأنّ الرجال عليهم نفقات كثيرة، فهم أحق بما يكون شبه المجّان بخلاف النساء فإنهنّ كَلٌّ على أزواجهنّ أو آبائهنّ أو أبنائهنّ. وهو قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: ٣٤).
وذكر أنّ تقديم الرجل إنما يكون إذا كان في المرتبة نفسها مع المرأة، كما في حالة الأب والأم، أو الزوجين، أو الإخوة والأخوات.
وبيّن أيضًا أنّ الرجل يُعطى أكثر لسببين:
١- قيامه بمسؤولية الدفاع وحماية الأهل والعشيرة.
٢- كثرة نفقاته الواجبة على الأهل والزوجة والأولاد، من مهرٍ ونفقةٍ وكسوةٍ ومسكنٍ وصدقاتٍ وضيافةٍ وعلاجٍ وغير ذلك.
وقال الإمام النووي: والحِكمة أن الرجال تلحقهم مؤنٌ كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان والأرقّاء والقاصدين ومؤاسات السائلين وتحمّل الغرامات وغير ذلك. (شرح صحيح مسلم)
أمّا المرأة فليس عليها نفقة، بل نفقاتها على أبيها قبل الزواج، وعلى زوجها بعده، فإن لم يكن فعلى ابنها أو أخيها أو عمّها، بل يُجبَر الوارث على النفقة عليها بقدر نصيبه من الميراث.
قال في "الهداية" (٢/١٩٢، مكتبة بشرى): والنفقة لكل ذي رحم محرم إذا كان صغيرًا فقيرًا أو كانت امرأة بالغة فقيرة أو كان ذكرًا بالغًا فقيرًا زمنًا أو أعمى. ويجب على مقدار الميراث ويُجبَر عليه.
وعليه: فإعطاء الرجل ضعف المرأة معقول؛ لأنه نصف عدد أصحاب الفروض، ولأن مسؤولياته المالية ضعف مسؤولياتها. فكيف يُقال إنّ الإسلام أهان المرأة؟! بل هو الذي أعطاها كرامتها، بينما حُرِمت المرأة في الشرائع السابقة من الميراث بالكلّية.
الميراث في الأديان والشرائع السابقة:
(أ) القانون اليوناني: لم يكن الميراث يُعطى إلا للذكور، بحجّة أنهم المسؤولون عن شؤون الأسرة والحياة الاجتماعية، وأما الإناث فليست عليهن تلك المسؤوليات. (أحكام الميراث، ص٥٧، د. محمد محمد براج، نقلاً عن: تكبير متسلسل، مارس ٢٠١٧)
(ب) القانون البابلي: لم تكن البنت ترث مع وجود الابن أو الأخ، فإن لم يوجد ابن ولا أخ ورثت البنت. (الإعجاز لنظام الميراث، أحمد يوسف سليمان)
(ج) اليهودية: لا ترث البنت مع وجود الابن، وإن لم يكن ابن ورثت بشرط أن تتزوج من داخل القبيلة، وإلا حُرِمت. والزوجة أيضًا لا نصيب لها في الميراث، بل ترثها أملاكُها لزوجها. (التوراة: سفر العدد، باب ٢١، ٢٧، باب ٣٦ / مقدمة شريفيه: ١٨-١٩)
(د) المسيحية: اعتُبرت المرأة نجسةً عندهم، ولا يُوجد قانون مستقل للميراث. ولأن عيسى عليه السلام جاء لإصلاح بني إسرائيل وتأكيد التوراة، فالراجح أن حكم الميراث عندهم هو حكم التوراة نفسه. (الفرائض والمواريث للزحيلي: ٢٣-٢٥)
(هـ) الهندوسية: المرأة لا نصيب لها في الميراث. جاء في "منوسمرتي" (٩/١٠٢): "أموال الوالدين كلّها للابن الأكبر، وعلى باقي الإخوة أن يعيشوا في كنفه كما كانوا يعيشون في كنف الوالدين." (مذاهب العالم: ١٦١ / الإسلام والهندوية: ٤٢٦-٤٣٠)
وفي نصوص الـ"يَجْرُويد" و"أثَر ويد": (كتابان مقدسان ولهما حيثية الأصل في ملة الهندوس)
المرأة والـ"شودر" كلاهما محرومان من المال.
البنت لا ترث من أبيها.
الأرملة إن ورثت شيئًا لا يحق لها بيعه.
حتى إذا لم يكن للميت ولد ذكر لا ترث البنت، بل المتبنَّى هو الوارث. (مذاهب العالم: ١٢٨)
وفي القانون الهندي الحديث سنة ٢٠٠٥م أُعطي للبنت نصيب مساوٍ للابن في الميراث المشترك. (تكبير متسلسل، مارس ٢٠١٧)
(و) العرب في الجاهلية: لم يكونوا يعطون النساء ميراثًا، بل كانوا يقولون: كَیْفَ نُعْطِي الْمَالَ مَنْ لا يركب فرسًا ولا يحمل سيفًا ولا يقاتل عدوًّا؟ (المواريث: ٢١)
فلا يعطون النساء ولا الأطفال شيئًا من الميراث أو الغنائم، بل يعدّونهم عيالًا عليهم. فجاء الإسلام فأنصف المرأة، فأنقذها من وأد البنات، وجعلها مالكةً في بيتها، وفرض لها نصيبًا في الميراث، وصان كرامتها. (مقدمة شريفيه: ٢٠-٢١)
وللتفصيل يُراجَع: كتاب الفرائض، "آسان سِراجِي" للمفتي سلمان منصورپوري، استاذ دار العلوم ديوبند الهند ص٣٤-٤٤. فقد قدم الشيخ معلومات مهمة في توطئة هذا الكتاب. وكذلك الشيخ خالد سيف الله رحماني ركن هيئة "الفقه الإسلامي" بسعودية في كتابه: المسائل الفقهية الحديثة.
والحاصل: أن مَن يظن أنّ الإسلام ظلم المرأة في الميراث فهو الخاطئ في ظنه ، ألا ترى أن الإسلام أكرمها وعدل في حقّها، بينما الشرائع السابقة حرمتها من الميراث أصلًا.
فوفقنا الله فقها صحيحا في الدين. و حمانا من المعترضين المثرثرين ، ناطقين بالبطلان ، مائلين عن صحة العرفان ، خالين عن علم الحديث والقرآن.
وفق و أوزع اللهم لما تحب وترضى واجعل عاقبتنا خيرا من دنيانا. آمين.
✍🏻 أبو خالد بن ناظر الدين
خريج دار العلوم ديوبند الهند