لما أشرق نور الإسلام على الدنيا كان الرقّ قد استحكمت حلقاته، ورسخت جذوره في المجتمعات البشرية كافة، فكان شائعاً في الأديان السابقة والإمبراطوريات المتواجدة.
(الكتاب المقدس،سفر الثنية 20، سفر الملوك: 3، رسالة بطرس الأولى 2/18-21).
وكان الناس يومئذٍ يرون الاسترقاق نظاماً أبدياً لا انفكاك لهم عنه، ومؤسسة اجتماعية واقتصادية لا غنى للممالك والدول عنها. فجاء الإسلام برسالته الخالدة، فلم يُبْقِه على حاله، ولم يلغِه دفعة واحدة، إذ لم يكن إلغاؤه حينئذٍ أمراً ممكناً في ظل الظروف العالمية، ولكنه عالجه بعلاج رباني حكيم؛ سدّ أبوابه، وضيق طرقه، وفتح في المقابل أبواب الحرية مشرعة على مصاريعها، حتى انقطع دابر الرقّ واندثر أثره، وصار إلى زوال كما أخبر ابن القيم رحمه الله حيث قال: إنّ الإسلام سدّ ذرائع الرقّ، وفتح أبواب العتق، فصار الرقّ في الإسلام إلى زوال.
(زاد المعاد 5/65).
ولم يترك الإسلام الرقيق فريسة لغلظة السادة أو شهوة المتسلطين، بل أحاطه بأحكام مشرقة، وأوامر سامية، تدعو إلى الرفق والرحمة والإحسان، فقال جل شأنه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].
فكان الرقيق في ظل الشريعة شريكاً في الإنسانية، له حقوق مصونة، وكرامة مرعية، وسبل الحرية مفتوحة أمامه. فجعل الإسلام العتق كفارةً لكثير من الذنوب، كالقتل الخطأ، والظهار، واليمين، وجعل العتق قربةً يتقرب بها العبد إلى ربه، وحثّ على المكاتبة، بل أوجبها إذا علم في الرقيق خيراً، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾. (النور:٣٣)
وهكذا أبقى الإسلام الرقّ ابتداءً رعايةً لسنن الواقع العالمي، لكنه في الوقت نفسه أرسى قواعد الحرية، وهيأ سبل الانعتاق، الرق أن صار أثراً بعد عين. وقد لخّص محمد قطب هذا المعنى بقوله: «إن الإسلام لم يلغ الرقّ فجأة، لكنه أغلق منافذ الاسترقاق ووسّع أبواب العتق، حتى انتهى الرقّ شيئاً فشيئاً»
(شبهات حول الإسلام، ص: 33-35).
فكان منهج الإسلام منهج الحكمة والتدرج، إذ لا يغيّر الأوضاع جملةً واحدة، ولكنه يبني صرح الحرية لبنةً بعد لبنة، حتى استقام بنيانه على العدل والرحمة والإنسانية.
وفي عصر الصحابة الكرام رضي الله عنهم تجلّت هذه المعاني في أبهى صورها، فكانوا يتسابقون إلى عتق الرقاب طلباً لمرضاة الله، حتى صار العتق سمةً بارزة من حياتهم، وشعاراً عملياً لرسالة الإسلام في تكريم الإنسان.
وقد ذكر نواب صديق حسن خان رحمه الله في النجم الوهّاج أن السيدة عائشة رضي الله عنها أعتقت تسعةً وستين عبداً، وأعتق عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه سبعين، وحكيم بن حزام مائة،
وعبد الله بن عمر ألفاً،
وعثمان بن عفان مائتين، والزبير بن العوام مائة،
وعبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألفاً في يوم واحد،
والوليد بن الوليد ثمانمائة .
(فتح العلام شرح بلوغ المرام، ص 223، كتاب العتق، طبع بيروت).
فانظر كيف أنّ هؤلاء السبعة وحدهم أعتقوا ما يزيد على ثلاثين ألفاً ومئتين وتسعة وستين عبداً، فكيف بغيرهم من الصحابة الذين لم تذكر أسماؤهم في هذه الروايات! ألا يدل ذلك أوضح دلالة على أن الإسلام ما جاء ليؤسس للرقّ، بل جاء ليهدمه من أساسه، وليقيم بدلاً عنه صرح الحرية والكرامة الإنسانية، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾؟! فسبحان من أرسل نبيه محمداً ﷺ رحمةً للعالمين، ليحرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد.
✍🏻 أبو خالد بن ناظر الدين
خريج دار العلوم ديوبند الهند