استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 26: تربية المفاهيم : كيف يقدم القرآن نموذجًا لبناء "المعقولات" من رحم الحياة الأسرية؟


إن بناء الحضارات يبدأ من بناء "المفاهيم" في نفوس أبنائها. فجودة تفاعل الإنسان مع واقعه هي انعكاس مباشر لجودة المفاهيم التي يرى بها العالم. في هذا المقطع من سورة البقرة، يقدم لنا القرآن "نموذجًا عمليًا" و"ورشة تطبيقية" في "كيفية بناء المعقولات". فهو لا يلقي بمفاهيم مجردة، بل يعلمنا كيف "نربي" مفاهيمنا وننميها من خلال الممارسة الحية. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف هذا المنهج القرآني، وكيف أنه يتخذ من "أدق تفاصيل الأسرة" مختبرًا لبناء "المفاهيم الصلبة" القادرة على مواجهة أزمات الحياة وبناء العمران.
 "البيان الإلهي" كمنهج لـ "صناعة العقل"
إن "المنهج العمود" في هذا المقطع (الحزب 4، الثمن 6) هو الآية الخاتمة للمقطع ﴿﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُۥٓ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَۖ﴾ (240)
فهي تكشف عن أن الغاية العليا من كل التشريعات التفصيلية ليست مجرد الامتثال، بل هي "صناعة عقل" قادر على "اعتقال المعاني" وبناء المفاهيم. فالغاية، كما يوضح الطبري رحمه الله، هي أن "تعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم... ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم". والعقل الذي يبنيه القرآن هو الذي، كما يعرفه الشيخ الطوسي رحمه الله، "يميز بها بين القبيح، والحسن، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب".
"تربية المفهوم": من الممارسة الحية إلى "اعتقال المعنى"
يعلمنا القرآن أن "المفاهيم" لا تُبنى بالدرس النظري فقط، بل "تُربى" من خلال الممارسة، تمامًا كما يُربى "الفلو" (صغير الفرس) بالرعاية والتدريب. فالإنسان وهو "يفعل الفضل" في حياته اليومية ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، يبدأ في "التقاط واعتقال" معاني الفضل وآثاره ومشاعره. وهذا "الاعتقال الكلي"، الشبيه بعمل الدماغ الذي يلتقط التجربة بكل أبعادها، هو الذي يبني "مفهومًا" حيًا وراسخًا. ومن أسمى ممارسات الفضل، كما يرجح الطبري، هي "الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها... وأداء كل الواجب لها عليه". هذه الممارسة هي التي تربي مفهوم الفضل وتنميه.
"معراج الصلاة": الركيزة الروحية لبناء المفاهيم
إن عملية "تربية المفاهيم" تحتاج إلى "ركيزة" روحية تمدها بالطاقة والمعنى. وتأتي آية الصلاة ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ...﴾ في قلب السياق لتكون هي هذه الركيزة. إن "متابعة معراج الصلاة مفهومًا" -كصلة وقرب وخشوع (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)- هو الذي يرتقي بالنفس، ويجعلها قادرة على ممارسة الفضائل وبناء المفاهيم السامية.
 "لحظة الشقاق": الاختبار الحقيقي لصلابة المفاهيم
إن القيمة الحقيقية للمفاهيم التي بنيناها في "الصفاء" تظهر في "لحظة الأزمة" والشقاق. ففي "حالة الشقاق"، الإنسان الذي ربى "مفهوم الفضل" بشكل صحيح، "يستحضر سابقة الفضل" (الرصيد العاطفي)، ويستحضر "معراج الارتقاء" في الصلاة، فيخجل أن يهبط إلى حضيض الانتقام. وهذا الاستحضار يجعله "أهلاً لتجاوز المخاطر شقاقًا، وبناء العمران اتفاقًا"، وكل هذا الجهد الباطني في بناء المفاهيم ومجاهدة النفس عند تطبيقها، يقع تحت عين الله البصيرة ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
الخاتمة: من بناء المعقولات إلى بناء العمران
يقدم لنا القرآن "منهجًا عمليًا" لبناء مفاهيمنا، لا "قائمة" مفاهيم جاهزة. إن هذا المنهج، الذي يبدأ من "أصغر خلايا المجتمع" (الأسرة)، هو الذي يصنع "العقل الراشد" و"الإنسان الصانع للمفاهيم"، الذي هو بدوره "الخلية الحية" الوحيدة القادرة على بناء "عمران" قائم على الفضل والاتفاق، لا على الصراع والشقاق.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.