استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مولود السجن وشهيد الحرية – قصة يوسف الزق



                الحمد لله الذي كتب على عباده الابتلاء، وجعل الصبر سبيل الأنبياء، وجعل الشهادة تاجًا على رؤوس الأصفياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تحفظ الدماء وتُعلي اللواء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المجاهدين وقائد الغرّ المحجّلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
            ألا وإن في قصص الشهداء لعِبرة، وفي أخبارهم عبرةً وذكرى، يحيي الله بها القلوب بعد موات، ويوقظ بها الأرواح من غفلات. ومن أعجب ما يُروى في زماننا هذا قصة فتىً لم يعرف الحياة إلا أسيرًا، ولم يذق الحرية إلا في ظلال الشهادة، فكان ميلاده في سجن، وصِباه في قيد، ورحيله في عرس الشهداء. ذلكم هو يوسف الزق، أصغر أسيرٍ في العالم، وأحد معالم القضية الفلسطينية، وعنوانًا بارزًا في سفر المظلومين والمجاهدين.
مولد في الأسر… وطفولة خلف القضبان.
             لقد شاء الله أن تُعتقل والدته فاطمة الزق سنة 2008، وهي في طريقها إلى العلاج خارج غزة، وما كانت تدري أن في رحمها جنينًا ينبض بالحياة. دخلت إلى المعتقل وما شعرت إلا ببوادر الحمل، فإذا بها تقضي شهورًا طويلة بين جدرانٍ صمّاء، حتى وضعت مولودها في زنزانة ضيقة، لا أفق فيها ولا نور، لا سرير ولا طبيب، بل بين قيود وحديد، بين أسيراتٍ يتألمن، وسجّانين يبطشون.
أفلا تعجبون لوليدٍ خرج إلى الدنيا في رحم السجن؟!
أفلا ترون قسوة الاحتلال الذي حرم أمًّا من حقّ الولادة في بيتها، وألقى بها في زنزانة مظلمة، تحمل همّ نفسها وجنينها؟!
لقد سمّت ابنها "يوسف" تذكّرًا بقصة يوسف الصديق عليه السلام، الذي ذاق مرارة السجن ظلمًا، وخرج منه عزيزًا مكرمًا. كأنها تقول: لعلّ ابني يوسف يكون رمزًا كما كان يوسف النبي رمزًا للصبر والإيمان.
عامان كاملان، ربّته أمّه في سجنها؛ يمرض مرارًا فلا دواء، يبكي فلا حليب، يضعف فلا غذاء. أمّ تُرضعه مع الدموع، وتدفئه بحرارة جسدها، وتعلّمه أوّل دروس الحياة أن فلسطين لا تهب أبناءها إلا دموعًا وقيودًا وجراحًا، ثم ترفعهم شهداء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
        الإفراج… ثم مطاردة القدر
وفي عام 2009، أشرقت شمس الفرج، إذ خرجت فاطمة وابنها يوسف بصفقةٍ مع الاحتلال، مقابل فيديو للجندي الإسرائيلي الأسير "جلعاد شاليط". يومها، لم يتجاوز عمر يوسف عامًا وثمانية أشهر، ولكنه خرج ليحمل لقبًا لم يسبقه إليه أحد: أصغر أسير محرَّر في العالم. لقد دوّت صورته وهو في حضن أمّه في وسائل الإعلام، لتكشف للعالم وجهًا آخر من وجوه الجرائم الصهيونية.
ولكن، الاحتلال لا يترك أبناء فلسطين أحياءً ولا أمواتًا؛ خرج يوسف صغيرًا من السجن، ليعيش بقية عمره مطاردًا بالحصار والعدوان، حتى حانت لحظة قدره، فإذا بطائرات العدو تغتال طفولته في شارع الثورة بغزة، في السابع عشر من عمره، فانتقل من قيد الأرض إلى حرية السماء.
المأساة الفلسطينية تتكرر
يا عباد الله، انظروا إلى حال أمتكم في غزة:
             منذ آذار 2025م، ارتقى أكثر من سبعة آلاف وثلاثمئة شهيد، وجرح ستة وعشرون ألفًا، وحوّل الاحتلال مراكز المساعدات الإنسانية إلى "مصائد موت"، سقط فيها مئات الجائعين. ومنذ السابع من أكتوبر 2023، بلغ عدد الشهداء والجرحى أكثر مما قال القائلون ، أغلبهم نساء وأطفال، فيما فُقد الآلاف، وشُرّد مئات الآلاف، وحصد الجوع أرواح الأطفال الرضّع.
              إنها مأساة تتجدد، ومجازر لا تنتهي، ولكنها تصنع رجالًا كالجبال، وأطفالًا كالنجوم، يولدون في الأسر ويكبُرون في الظلم، ثم يرحلون شهداء، يكتبون بدمائهم ما تعجز الأقلام عن كتابته.
يوسف… رمز أمة وصوت قضية.
              ألا لم يكن يوسف فتىً عاديًا، بل كان آية من آيات الله. وُلد في قيد، فعاش رمزًا للأمة، ومات شاهدًا على أن الاحتلال مهما طال فلن يُطفئ نور الحرية. حياته كلها كانت حكاية واحدة: ميلاد في الأسر، طفولة في الظلام، صبا تحت النار، وخاتمة بالشهادة.
إنه رسالة لنا جميعًا أن هذه الأرض لا تنبت إلا رجالًا، ولا ترضع أبناءها إلا حليب العزة، وأن دماء الشهداء هي الحبر الذي تُكتب به فصول التحرير.
           دعوني أذكّركم بأبياتٍ تجري على لسان الفؤاد:
وُلدَ الصغيرُ على قُيودٍ قاسية * فَتَحَ العيونَ على دموعِ الأسْرِ
ما ذاقَ طَفْلُ الحُرِّ فَجْرًا ناعِمًا * بل عاشَ في سِجنٍ طَويلِ العُمرِ
ثم ارتقى:
قد ماتَ يوسفُ، لا! بل عاشَ خالدًا * في كلِّ قلبٍ يبتغي التحريرَا
طِفلٌ صغيرٌ ماتَ، لكنْ بعدما * قد صارَ للأحرارِ دستورَا
            يا يوسف… أيها الفتى الذي كبرتَ قبل أوانك، يا من حملتَ لقب "أصغر أسير" ثم ختمتَ عمرك بوسام "أصغر شهيد"، نم قرير العين، فقد تركتَ للأمة وصيّةً مكتوبة بالدم: أن لا حياة مع الاحتلال، ولا حرية إلا بالجهاد.
رحمك الله، وجمعك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحشرك في زمرة يوسف الصديق عليه السلام.

﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.


ابو خالد بن ناظر الدین القاسمی 

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.