استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الإنسان بين الصورتين : من كرامة الخلق إلى وعي الاختيار

مدخل في معنى الصورة والكرامة

الإنسان، في المنظور القرآني، ليس مجرد كائنٍ من كائنات الأرض، بل هو حدثٌ في الوجود، تجتمع فيه الصورة الترابية والنفخة الإلهية.

فقد خُلِق من طينٍ، لكن نُفخ فيه من روح الله، فصار الملتقى بين الأرض والسماء، بين الظاهر والباطن، بين الكثرة والوحدة.

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[1]

الكرامة هنا ليست مجرّد امتيازٍ تشريفيٍّ، بل تعيينٌ وجوديٌّ:

فالكرامة تعني أنّ الله أراد للإنسان أن يكون كائنًا واعيًا، قادرًا على التلقي والاختيار والفهم، لا مجرد مفعولٍ به في مسرح الخلق.

وقد اختصّ الله الإنسان بصفةٍ مزدوجةٍ: الجمال والتقويم.

قال تعالى:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[2]

وهنا يبدأ التأويل.

فأغلب المفسرين – كالطبري[3] والقرطبي– رأوا أن أحسن تقويم تعني أحسن صورةٍ جسمانيةٍ، وهذا تفسيرٌ صادقٌ جزئيًا، لكنه لا يستنفد المعنى القرآني.

فكلمة التقويم في بنيتها اللغوية تعني “الإقامة على استقامة”، أي أن الله لم يمنح الإنسان حسن الهيئة فحسب، بل أودع فيه نظامًا من الاستقامة والتوازن:

بين العقل والغريزة، بين الحرية والواجب، بين الأرض والسماء.

في التأويل: التقويم كاتساق الوجود

حين نقول أحسن تقويم، فنحن نتحدث عن “البنية المثلى التي تسمح للإنسان بأن يعي ذاته في الزمن”.

إنها ليست وصفًا ثابتًا، بل قابلية دائمة للاعتدال.

فالتقويم بهذا المعنى أقرب إلى ما يسميه برغسون الديناميكية الخالقة، ذلك التوازن بين المادة والروح الذي يجعل الوعي ممكنًا.

كما أن هايدغر[4] حين تحدث عن الإنسان باعتباره “الكائن الذي يَسكن اللغة”، كان يقارب – من غير وعيٍ – معنى “أحسن تقويم” من جهةٍ أخرى:

فاللغة في القرآن ليست أداةَ تعبير، بل مظهرٌ من مظاهر التقويم، إذ بها يعبّر الإنسان عن فكره، ويفهم أمر الله، ويُعيد ترتيب العالم في وعيه.

وبينما يرى نيتشه[5] أن الإنسان كائنٌ في صيرورةٍ دائمة، يجب أن “يتجاوز نفسه” ليصبح “الإنسان الأعلى”، يأتي المنظور القرآني ليقول إنّ تجاوز الإنسان لنفسه لا يكون بإلغاء أصله، بل بالاتزان بين الصورتين:

صورة الخلق التي تُثبّته، وصورة الأمر التي ترفعه.

الإنسان لا يكتمل إذا صعد وحده، ولا إذا هبط وحده، بل إذا سار بين الاتجاهين في وعيٍ مستمرّ.

بين الصورتين: الصراع كاختبار للوعي

حين يقول الله تعالى:

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾[6]

فهو لا يصف عقوبةً بل انحرافًا عن التوازن الأصلي.

فمن “أحسن تقويم” إلى “أسفل سافلين” تقع المسافة التي يُمتحن فيها الإنسان وعيًا وإرادةً.

الصورتان إذن ليستا ضدّين متقابلين، بل قطبان يتجاذبان الوعي.

•الصورة الأولى: صورة الخلق، وهي ما أوجده الله في الإنسان من هيئةٍ وعقلٍ وقدرةٍ على الفعل.

•الصورة الثانية: صورة الاختيار، وهي ما يصنعه الإنسان بنفسه حين يحدّد وجهته في الوجود.

في هذه المسافة يولد “الوعي الأخلاقي” الذي يجعل الإنسان مسؤولًا عن ذاته.

وهنا يلتقي القرآن مع فلسفة الغزالي[7] في “إحياء علوم الدين”، حين يقول إنّ الإنسان يحمل في داخله قوتين: “سبعيةً” و“ملائكيةً”، ومن توازنهما يظهر المقام الإنسانيّ الحق.

وهي أيضًا الفكرة التي طوّرها ابن عربي في قوله:

“الإنسان الكامل هو مرآة الحق، يرى فيها الخلقُ ربَّه، ويرى فيها الربُّ خلقَه.[8]”

فكلما أدرك الإنسان صورته الإلهية – أي تلك النفخة التي بها كان  - اتّسقت صورته الأرضية،

وكلما غفل عنها، تشوّهت الصورتان معًا، إذ لا يقوم جسدٌ بلا معنى، ولا معنى بلا حامل.

الاستغناء الوهميّ وسقوط الإنسان

﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾[9]

هذا هو الخطر الذي يتهدّد الصورتين حين تنفصلان.

فالإنسان الذي يرى نفسه مكتفيًا بذاته — كما يحذّر نيتشه حين أعلن “موت الإله” —

يُسقط صورته الإلهية ويعبد صورته البشرية.

وهنا يتحوّل الوعي إلى طغيانٍ عقلانيّ، ويتحوّل العقل من وسيلةٍ للفهم إلى أداةٍ للهيمنة.

أما القرآن فيقدّم توازنًا مغايرًا:

يمنح الإنسان حرّيته كاملةً، لكنه يذكّره بأنّ هذه الحرية ليست استقلالًا بل أمانة.

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ﴾[10]

وهنا يكمن سرّ الإنسان بين الصورتين:

أن يكون حرًّا دون أن يكون متفرّدًا،

وعاقلًا دون أن يكون مغرورًا،

ومكرّمًا دون أن يكون متألّهًا.

من الثنائية إلى الوحدة

إنّ أعمق ما في هذه الآية:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[11]

أنها تفتح أفقًا للوحدة بعد الثنائية.

فالإنسان حين يعي أنّ الصورتين ليستا تضادًّا بل تكميلًا، يصل إلى مرحلة “الإنسان الكامل” بالمعنى الوجودي، لا الغيبيّ أو الصوفيّ فقط.

في فلسفة هيدغر، يُعرّف الإنسان بأنه “الكائن الذي وُكِّل إليه أن يكون موطنًا للحقيقة”.

وهذا يلتقي بدقّة مع المفهوم القرآني للإنسان:

كائنٌ يسكنه أمر الله ليشهد به في الأرض.

فالإنسان الكامل هو الذي يُقيم التوازن بين الصورتين حتى لا تغلب إحداهما الأخرى.

وبذلك يصبح التقويمُ حركةً دائمةً، لا وصفًا ساكنًا.

إنه صيرورةُ الوعي الإنسانيّ نحو الله، حيث تُصبح الحرية عبادةً، والعقل تسبيحًا، والحضور صلاةً دائمةً بلا طقوس.

 خاتمة: وحدة الصورة وسرّ الوعي

كلّ إنسانٍ يحمل في داخله صورتين:

صورةً من الله تُذكّره بالعلوّ، وصورةً من نفسه تُقيّده بالتراب.

ولا يكتمل وجوده إلا إذا ربط بينهما بخيطٍ من الوعي.

من يغفل عن أصله السماويّ يهبط إلى “أسفل سافلين”، ومن ينكر طينته الأرضية يفقد اتّزانه في الوهم.

لكن من وعى الصورتين معًا،

رأى الجمال في الازدواج،

والكمال في النقص،

والحرية في العبودية لله.

فـالإنسان بين الصورتين هو الإنسان بين الحضور والغفلة، بين الأمانة والطغيان،

بين أن يكون “ظلًّا لله” أو “ظلًّا لذاته”.

وحين يختار الصورة الأولى، يصبح الإنسان آيةً من آيات الله في الأرض، شاهدةً على أن الوعي نفسه نوعٌ من العبادة.

 

 يحي عباسي بن أحمد - الجزائر

 


[1] الإسراء: 70 [2] التين: 4 [3] الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، ج30 [4] هايدغر، الكينونة والزمان [5] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت [6] التين: 5 [7] الغزالي، إحياء علوم الدين [8] ابن عربي، م. (2002). فصوص الحكم (أ. عافية، محرر، ط. 2، ص. 65). دار الكتب العلمية. [9] العلق: 6–7 [10] الأحزاب: 72 [11] التين: 4

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.