التوكُّل على الله منزلةٌ عظيمةٌ من منازل الإيمان، ومقامٌ رفيعٌ من مقامات العبودية، تتجلّى فيه حقيقة المعرفة بالله، والتسليم لحكمه، واليقين بكفايته. وما من عبادةٍ قلبيةٍ دلّت على صفاء التوحيد وصدق الاعتماد كعبادة التوكُّل، إذ بها تُعرف درجة العبد في ثقته بربّه، وطمأنينته إلى وعده، ورضاه بقضائه.
وليس التوكُّل، كما يظنّه بعض الناس، تركًا للعمل أو إعراضًا عن الأسباب، بل هو جمعٌ بين اعتماد القلب على الله، وبذل الجوارح ما أُمر به من الأسباب المشروعة. فالمتوكِّل حقًّا هو الذي يسعى بقلبٍ موقنٍ أنّ السعي لا يُثمر إلا بإذن الله، ويعمل بجوارحه وهو عالمٌ أنّ النتيجة ليست بيده.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع المثل في هذا المقام، فكان — وهو سيِّد المتوكّلين — يلبس درعه في القتال، ويستشير أصحابه، ويخطِّط لكل أمرٍ تدبيرًا، ثمّ يرفع يديه ضارعًا إلى الله مستنصرًا به. فلو كان التوكُّل تركًا للأسباب لما أخذ رسول الله بها، ولكنّه علّمنا أنّ كمال التوكُّل لا يتمّ إلا مع تمام السبب.
وهذا المعنى العميق دلّ عليه القرآن الكريم في أبلغ مثال، إذ قال الله تعالى لأمّ مريم — في حال ضعفها ووحدتها —:
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾.
فلو شاء الله أن يُساق إليها الرُّطب من غير حركةٍ لهزَّه الجذع بغير أمرٍ منها، ولكنّه سبحانه أراد أن يُعلِّم عباده أنّ البركة لا تكون إلا مع حركةٍ في طاعةٍ، وأنّ الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكُّل، بل هو جزءٌ من حقيقته.
ومن دقائق الفهم عند أهل السنّة أنّ الالتفات إلى الأسباب شركٌ، وإلغاؤها سفهٌ؛ إذ لا يصحّ أن يُنسب التأثير إلى السبب استقلالًا، كما لا يُنكر ما جعله الله فيه من أثرٍ بحكم العادة. فالماء يُروي بإذن الله، والنار تُحرق بإرادة الله، والدواء يُشفي بما أودع الله فيه من خاصيّة. فمن رأى الأسباب تعمل بذاتها فقد أشرك، ومن أنكر أثرها فقد ناقض العقل والشرع معًا، وإنما الكمال في أن يراها العبد وسائطَ مأمورةً، لا خالقةً ولا مستقلةً.
ثمّ إنّ التوكُّل عبادة، والعبادات لا تُصرف إلا لله وحده. فمن علّق قلبه بغير الله في طلب النفع أو دفع الضرّ، فقد وقع في شركٍ ظاهرٍ يناقض أصل التوحيد. وإنّ من الناس من يُسمّي ذلك “توكُّل السرّ”، وهو في الحقيقة اعتمادٌ على غير الله، كأن يتوجّه إلى وليٍّ أو صاحب قبرٍ معتقدًا أنّه يُصرِّف الكون أو يُيسِّر الأسباب، وهذا من جنس دعاء غير الله، وهو شركٌ أكبر لا يرضاه الله لعباده.
فالتوكُّل الذي دعا إليه القرآن هو توكُّلٌ على الحيّ القيّوم الذي لا يموت، توكُّلٌ يملأ القلب سكينةً وثقةً، ويُورث صاحبه طمأنينةً لا يملكها أهل الدنيا ولو ملكوا أسبابها. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾،
أي كافيه ومغنيه عن كلّ من سواه.
وإذا استقرّ هذا المعنى في قلب المؤمن، سكنت نفسه عند البلاء، واطمأنّ في مواطن الخوف، لأنّه يعلم أنّ وراء كلّ سببٍ تقديرًا، ووراء كلّ قدرٍ رحمةً، وأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فليست الراحة في تعطيل الأسباب، ولا السلامة في التخلّي عن السعي، بل في صدق التوكُّل مع صدق العمل.
وهكذا يظهر جلال هذا المقام، إذ يجمع بين قلبٍ موقنٍ بربّه، وجوارحَ عاملةٍ في طاعته، فيكون العبدُ حقًّا متوكِّلًا إذا كان عاملًا، ويكون العاملُ مخلصًا إذا كان متوكِّلًا، وبهذا يصفو الإيمان وتستقيم العبادة، ويعرف العبد أنَّه عبدٌ لله في سعيه كما هو عبدٌ له في رضاه.
الله يؤفق حسن العمل مراعاة بحقيقته.
✍🏻 ابو خالد القاسمی
*مقدمة لتجديد النظر في أسس التصور الإسلامي * (محمد بن عزة)
بارك الله فيك أستاذ أبو خالد على طرح هذا الموضوع المهم جدا
لا بد من توضيح إشكال كثيرا ما ورد في تاريخ الحضارة الإسلامية إذا لم يتم فقهه بوضوح، يؤدي الى تفشي غبش في التصور ثم في التطبيق:
ألا وهو :*كيفية تصور قانون السببية*!!
هل الأسباب مجرد عادة واقتران بين المقدمات والنتائج(الواقعية وليس المنطقية)؟؟!!
أم:
العلاقة قانون موضوعي راسخ!!؟؟
وقبل الحسم، لابد من تحديد نمط السلوك الحضاري والإجتماعي في كلا المسارين!!:
فالعلاقة المتصورة عادة وإلفة تفسح المجال تصوريا ثم سلوكيا- لفكرة عدم الإعتماد على سنة الإطراد والرسوخ بين السبب والنتيجة!!
كأن يتم التركيز على الخلوة وترديد الأوراد بعدد هائل من المرات يستغرق من الوقت ما يضاهي زمن السعي في الأرض
على اعتبار أن العادة والإقتران لا شيء أمام مصدر الحسم!!
وكثيرا ما فشى هذا الفهم في التاريخ والواقع!!
أما المسار الثاني الذي يرى بأن العلاقة بين السبب والنتيجة هي قانون موضوعي راسخ، فينصرف الى تعلم مبادئ هذا القانون، واستكشاف كيفيات عمله في الظواهر المختلفة:
وهنا يكون التصور هذا من مقومات ازدهار العلوم واكتساب القوى التقنية والإدارية والقانونية لبناء الحضارة وتحسين سبل العيش..وتحقيق الإستقلالية والمنعة والعزة!!
ومع كل ذلك، ترجع الامور كلها الى إرادة الله الخالق لكل من الأسباب والقوانين ونتائجها وعلاقاتها..
وليس في التصور شرك ما صفت الرؤية في ذهن وقلب الإنسان:
فموضوعية القانون السببي لا تعني أي فعالية خالقة ولا مدبرة من دون الله!!
بل تعني أن الله سخر هذا القانون تمهيدا كونيا لقيام التوكل، ونمو الفعالية التوكلية حتى تستوعب ليس الفرد فحسب بل المجتمع ككل
وبالتالي يشمل خير هذا المعتقد التوحيدي الأجر في الآخرة والعزة والرخاء في الدنيا من خلال تعدي الفعالية من الفرد الى المجتمع: إذ قانون السببية يمد التصور من المقصد العمودي بين العبد وربه ، الى المقصد الأفقي: بين الفرد والمجتمع في الجغرافيا والتاريخ
