في مقطع هو بحق "دستور الحضارة" و"ميثاق العمران"، يرسم لنا القرآن الهيكل التنظيمي للمجتمع الراشد. هذا المقطع ليس مجرد مجموعة قوانين للحكم والطاعة، بل هو "بيان تأسيسي" لـ"فقه الائتمان"، يكشف عن أن كل مآسي الإنسانية تنبع من "الإخلال بالأمانات". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية "الأمانات" هي "الآية العمود" التي تؤطر كل شيء، وكيف يحرر القرآن مفهومي "الأمانة" و"العدل" من سجنهما الضيق، ليجعلهما "فلسفة" يقوم عليها العمران كله.
الآية العمود: "الأمانة" كروح للدستور و"مبدأ حاكم"
إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 9، الثمن 4) هي :
﴿اِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُكُمُۥٓ أَن تُوَ۬دُّواْ اُ۬لَامَٰنَٰتِ إِلَيٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ سَمِيعاَۢ بَصِيراٗۖ﴾ (57)
فهي "المبدأ الحاكم" الذي تتفرع عنه كل الواجبات التالية؛ فالحكم أمانة، والطاعة أمانة، والتحاكم إلى شرع الله أمانة. وتقرن الآية بين الأمانة والعدل قرانًا عجيبًا، فـ"أداء الأمانة إلى أهلها" (حسن الاختيار) هو شرط "الحكم بالعدل" (حسن الأداء). و"الحكم بالعدل" هو برهان على صدق الأمانة. ويختم الله هذا الأمر الثقيل بلمسة جمالية لطيفة: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ﴾، ليحول التكليف إلى أحسن موعظة محببة للقلوب.
تحرير المفاهيم: من "الوديعة" إلى "الأمانة الشاملة"، ومن "المحكمة" إلى "العدل الشامل"
إن "مأساة الاختزال" هي التي أفقدت هذين المفهومين روحهما. ومهمة الناهض هي "تحريرهما". فـ"الأمانة" ليست مجرد "أمانة الأموال"، بل هي "أمانة شاملة" تشمل أمانة الوجود والتكليف والسلطة والعلم، وهذا هو جوهر "فقه الائتمان". و"العدل" ليس حبيس "المحكمة والقاضي"، بل هو "فلسفة ملازمة للإنسان"، تشمل العدل مع النفس، وفي الأسرة، وفي القول، وحتى مع الأعداء. وكما يشرح ابن عاشور رحمه الله، فإن العدل هو "مساواة في تعيين الأشياء لمستحقّها، وفي تمكين كلّ ذي حقّ من حقّه".
"منهج فض النزاع": بين "مرجعية الوحي" و"التحاكم للطاغوت"
إن آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ...﴾ تضع "صمام الأمان" للمجتمع الراشد، وهو "منهج فض النزاع". فعند التنازع، لا تكون المرجعية لـ "أولي الأمر"، بل هي فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وهذا هو "الضلع الغائب" الذي يقيد سلطة الحاكم ويحمي حقوق المحكوم. ويصبح الصراع بين "الرد إلى الله والرسول" و"التحاكم إلى الطاغوت" هو "المعركة المركزية" للناهض في كل عصر.
المحور الرابع: "ظلم النفس": التشخيص الوجودي للخيانة
إن خيانة "أمانة العدل" والتحاكم إلى الطاغوت هي في جوهرها "ظلم للنفس". فالآية ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ...﴾ تكشف أن المنافقين، بظلمهم للحق، كانوا في الحقيقة يظلمون أنفسهم بحرمانها من "خير" حكم الله و"أحسن تأويل"، وإيرادها موارد الهلاك. وهذه المنظومة كلها تقع تحت "الرقابة الضامنة" التي يقررها ختام الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾. فالوعي بأن "المؤتمِن" سميع بصير "بكل شأن المؤتمَن"، هو الذي يحول "الأمانة" من التزام قانوني إلى "التزام وجداني".
الخاتمة: من فقه الائتمان إلى العمران الآمن
إن كل مآسي الإنسانية هي في جوهرها "إخلال بالأمانات". و"العمران الراشد الآمن" لا يمكن أن يقوم إلا على "فقه الائتمان" الذي يراهن على بناء "المجتمع المؤتمن"، حيث يشعر كل فرد -حاكمًا ومحكومًا- أنه يحمل أمانة سيُسأل عنها أمام "السميع البصير". وهذا هو جوهر "الدستور" الذي تضعه هذه الآيات.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
