حمدا للذي جعل العَبْرةَ سُلَّمَ القلوب، وفتح بها أبواب الغيوب، وأجرى من عيون عباده أنهار الدموع؛ فغسلت الذنوب، وأطفأت لهيب الكروب، وجعلها الله زينةَ الخشوع، وعلامةَ الخضوع، ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 109].
الدموع ليست كمثل ماء جار ، بل هي دررٌ غالية، وجواهر ثمينة، تخرج من بحر القلوب إذا تلاطمت أمواج الذكرى، أو اضطربت رياح الوجد، أو هبّت نسائم الأسحار. هي لآلئ تبرق في الليالي الحالكة، وتضيء في ظلمات المحن، هي لآلئ يشتريها الرحمن بفضله، ويرفع بها الدرجات لعباده بكرمه.
قال بعض السلف: "البكاء سراج القلب، فإذا ذهب الدمع أظلمت البصيرة"،
وقال آخر: "العين التي تبكي من خشية الله لا تمسها النار"،
وروى الترمذي: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
الدموعُ لسانُ الأرواح، وصوتُ القلوب إذا عجز اللسان عن البيان. هي رسائل تكتبها القلوب بحبر الإخلاص، وتبعثها إلى سماء القبول، فتصل قبل أن ينطق الداعي بدعائه.
قال الشاعر:
دموعُ العاشقينَ رسائلٌ إلى ربٍّ عليمٍ بالسرائرِ
إذا سالتْ عيونُ الخائفينا تفتّحتِ الجنانُ للزائرِ
اعلم أن زاد المسافر إلى الله دمعةٌ بالأسحار، وآهةٌ في ظلام الليل، وزفرةٌ في جوف السَّحَر، فكم من دمعةٍ جرت فبدّلت قدراً، وكم من عبرةٍ سالت فرفعت ذِكراً!
ألم تسمع قول الشاعر:
فَلا تَغْتَرِرْ بِلَذَاتٍ فَإِنَّكَ فَانٍ وَابْكِ عَلى مَا مَضى فَالبُكاءُ جُنَاحُ
دُمُوعُ اللَّيْلِ تَمْحُو الذُّنُوبَ جَمِيعَهَا وَتُورِثُ فِي الجِنَانِ لَكَ انْفِرَاجُ
إن الدموع سلاح المؤمن، ودواء الحزين، ومفتاح الفرج المبين. فإذا غلّقت الأبواب في وجهك، فافتح باب السماء بدمعتك، وإذا أظلمت الدنيا في عينيك، فأشعل نور الأمل ببكائك.
وما أعجب قول بعض العارفين: "إن قطرةً من دموع التائبين أحبّ إلى الله من قطرات دم الشهداء، لأن دم الشهيد يسيل مرةً واحدة، ودمعة التائب تسيل مراراً"، وإن صحّ المثل فالمعنى عظيم.
وما كان الأنبياء والمرسلون إلا أصحاب دموعٍ بالأسحار،
قال تعالى عنهم:
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
وكان داود عليه السلام كثير البكاء، حتى بَلَّت دموعه الحصى، وكان نبينا ﷺ يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فإذا قيل له: "تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟" قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً".
قال الشاعر:
إذا ما الليل أرخى سدولَه وأذعن الكونُ للسكوتِ الرهيبِ
تجلّى دموعُ المحبين نوراً تضيء الدروبَ إلى الحبيبِ
يا سائلاً عن سرّ العظماء!
إن صفحات التاريخ كُتبت بمداد الدموع قبل أن تُكتب بمداد الدماء. ما نال الخاشعون منازل العزّ إلا بدموعهم، وما رفع الله ذكر العابدين إلا ببكائهم.
ألا ترى أن موسى عليه السلام ناجى ربّه على طور سيناء بدموعه، وأن أيوب عليه السلام دعا ربّه في البلاء بدموعه، وأن محمدًا ﷺ استنزل رحمة ربه بدموعه؟
قيل:
ألا إنّما التقوى دموعٌ خفيّةٌ إذا الليل أرخى سدول الظلامِ
بها تُرفع الدرجات عند إلهنا وتُمحى بها الأوزارُ بعد الملامِ
فيا من جفّت عينه! سل الله أن يرزقك دمعةً صادقةً في جوف الليل، فإنها أثمن من كنوز الدنيا وما فيها. واعلموا أن الدموعَ أبوابٌ من الرحمة، وجسورٌ إلى الجنّة، وأنها لآلئ لا تضيع، بل يشتريها الله بفضله، ويجعلها وسيلةً إلى القرب منه، ويوم يفرح المؤمنون بلقاء ربهم، تكون دموعهم شفيعةً لهم عند مليك مقتدر.
"كُنْ فِي الدُّنْيَا بَاكِيًا، فَإِنَّمَا هِيَ سَاعَةٌ ثُمَّ تُعْطَى فَرَحًا أَبَدِيًّا."
(بكاء في الليل، ص: ١٧ ، كتاب في اللغة الهندية)
✍🏻 ابو خالد بن ناظر الدین القاسمی
