استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

هندسة الدعوة: من حماس النية إلى حكمة المنهج: المقال 3 : ما وراء عدم الحجاب: تفكيك الشبكة المفاهيمية المحتملة للجارة


مقدمة: من السلوك إلى الجذور المفاهيمية
في المقال السابق، تعرفنا على صدمة الأخت حليمة عندما اكتشفت أن مدخلها الدعوي المباشر والقائم على افتراض "الجهل بالدليل" لم يكن مناسبًا على الإطلاق لجارتها خريجة الشريعة. هذه الصدمة، وإن كانت محبطة، هي في الحقيقة نقطة انطلاق ثمينة نحو فهم أعمق لطبائع الدعوة والنفس البشرية. إنها تعلمنا الدرس الأول في "هندسة الدعوة": لا تعالج السلوك قبل أن تشخص المفاهيم التي أنتجته.
فالسلوك الظاهري (عدم ارتداء الحجاب في حالتنا) ليس إلا الثمرة النهائية لشجرة ضاربة بجذورها في أعماق العقل والوجدان. هذه الجذور هي "الشبكة المفاهيمية" التي تحكم رؤية الإنسان لنفسه وللعالم وللدين. ومهمة الداعية الحكيم، كالجراح الماهر، هي أن يتجاوز الأعراض الظاهرة ليضع يده على مواطن الخلل في هذه الشبكة. في هذا المقال، سنساعد حليمة على القيام بهذه المهمة التشخيصية، من خلال وضع فرضيات تحليلية حول الشبكة المفاهيمية المحتملة التي قد تكون وراء موقف جارتها.
فرضيات لتحليل الشبكة المفاهيمية للجارة:
من المهم التأكيد مجددًا أن هذه مجرد فرضيات اجتهادية، وليست أحكامًا قطعية. الهدف منها هو توسيع أفق التفكير لدى حليمة (وكل داعية) لترى الاحتمالات المتعددة وراء السلوك الواحد، مما يمهد لتصميم مدخل دعوي أكثر حكمة ودقة.
الفرضية الأولى: وجود مفهوم مشوه عن "الحجاب" نفسه
قد لا تكون المشكلة في إنكار وجوب الحجاب، بل في المعاني السلبية المرتبطة بمفهوم "الحجاب" في ذهن الجارة. فقد يكون هذا المفهوم لديها مرتبطًا بشبكة من المفاهيم الفرعية السلبية مثل:
"التخلف والرجعية": صورة نمطية تربط الحجاب بالماضي وعدم مواكبة العصر.
"فقدان الأناقة والجمال": اعتقاد بأن الحجاب يتعارض مع حق المرأة في إظهار جمالها وأناقتها.
"العزلة الاجتماعية": تصور بأن الحجاب سيفرض عليها عزلة عن محيطها الاجتماعي أو المهني.
"القمع وفقدان الهوية": ربط الحجاب بفكرة قمع المرأة أو طمس شخصيتها.
الفرضية الثانية: هيمنة مفهوم "الدين جوهر لا مظهر"
قد تكون الشبكة المفاهيمية للجارة مبنية على مفهوم مهيمن يرى أن جوهر الدين وأساسه هو "سلامة القلب" و"الأخلاق الحسنة"، مع تهميش أو إضعاف لمفهوم "الالتزام بالشعائر والمظاهر التعبدية". في هذه الحالة، فإن "أخلاقها العالية" التي لاحظتها حليمة ليست مجرد صفة جيدة لديها، بل هي تجسيدها العملي لمفهوم "التدين" كما تراه. هذا المفهوم الحاكم يبرر لها عدم الالتزام بالحجاب، لأنه في نظرها "قشور" أو "مظهر" لا يعكس بالضرورة حقيقة الإيمان.
الفرضية الثالثة: هيمنة مفاهيم اجتماعية وثقافية معاصرة
قد تكون المفاهيم الدينية لدى الجارة في حالة "تدافع" مع مفاهيم أخرى قوية اكتسبتها من محيطها الثقافي والاجتماعي، وهذه المفاهيم الوافدة هي المهيمنة حاليًا على قراراتها:
مفهوم "الحرية الشخصية": فهم للحرية على أنها حق مطلق في الاختيار يخص الجسد والمظهر دون قيود دينية أو اجتماعية.
مفهوم "الاستقلالية وتحقيق الذات": قد ترى الحجاب كرمز للتبعية أو كعائق أمام تحقيق ذاتها وطموحاتها المهنية والاجتماعية.
مفهوم "الانتماء الطبقي أو الثقافي": قد يكون عدم ارتداء الحجاب جزءًا من "شفرة" الانتماء لطبقة اجتماعية أو ثقافية معينة تسعى للحفاظ على مكانتها فيها.
الفرضية الرابعة: وجود "صدمة" أو ارتباط وجداني سلبي
قد يكون السبب ليس مفاهيميًا بحتًا، بل وجدانيًا عميقًا. فربما مرت الجارة بتجربة سلبية أو صادمة مع بيئة "متدينة" أو مع "محجبات" أسأن التصرف، مما أدى إلى تكوين ارتباط عاطفي سلبي في نظامها الوجداني بكل ما يرمز لهذه البيئة، بما في ذلك الحجاب. في هذه الحالة، يصبح رفض الحجاب آلية دفاعية نفسية لحماية الذات من استعادة ذكرى الألم.
الفرضية الخامسة: وجود مفهوم مشوه عن "الأولويات" الدعوية والمجتمعية
كونها خريجة شريعة، قد تكون واعية بحجم التحديات التي تواجه الأمة (الفقر، الفساد، الاستبداد...). وبناءً عليه، قد يكون لديها مفهوم حاكم يرى أن هذه القضايا الكبرى هي "الأولويات" الحقيقية، وأن التركيز على قضايا مثل حجاب المرأة هو إغراق للأمة في "الجزئيات" و"الفرعيات" على حساب القضايا المصيرية.
الفرضية السادسة: هيمنة مفهوم "الرحمة الإلهية" على مفهوم "المسؤولية التكليفية"
هذه فرضية عقدية دقيقة، حيث قد يكون لدى الجارة فهم غير متوازن لصفات الله. يطغى في شبكتها المفاهيمية مفهوم "الله غفور رحيم"، بينما يضعف مفهوم "الله شديد العقاب" ومفهوم "المسؤولية الفردية عن التكليف". هذا الخلل في التوازن يوفر لها مبررًا فكريًا ونفسيًا لعدم الالتزام، بمنطق أن "الله أرحم من أن يعذبني على أمر كهذا ما دام قلبي سليمًا وأخلاقي حسنة".
خاتمة: من التشخيص إلى الحكمة
إن عرض هذه الفرضيات الست يوضح لحليمة (ولنا) أن ما بدا في البداية مشكلة بسيطة (جهل بالدليل)، هو في الحقيقة قد يكون ظاهرة معقدة لها جذور مفاهيمية وقيمية ووجدانية واجتماعية وعقدية متشابكة ومركبة من كل ما حددنا أو من بعضه أو غيره من فرضيات. هذا التشخيص المتعدد الأبعاد هو الخطوة الأولى نحو حكمة المنهج. إنه ينقلنا من التفكير في "ماذا أقول لها؟" إلى التفكير في "من هي؟ وكيف تفكر؟ وما الذي يحركها؟".
في المقال التالي، سنقوم بتشريح المحاولة الأولى للأخت حليمة في ضوء هذا الفهم الجديد، لنرى بوضوح أخطاء "المدخل المعلوماتي" المباشر عندما لا تكون المشكلة نقصًا في المعلومات.

كتب حيان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.