استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

سلسلة هندسة الدعوة: المقال 4: من حماس النية إلى حكمة المنهج: تشريح المحاولة الأولى: أخطاء "المدخل المعلوماتي" المباشر

مقدمة: عندما تكون المعلومة ليست هي الحل

في المقال السابق، قمنا بوضع مجموعة من الفرضيات التحليلية حول الشبكة المفاهيمية المعقدة التي قد تكون وراء موقف "الجارة" من الحجاب. لقد رأينا أن الأسباب المحتملة تتجاوز بكثير مجرد الجهل بالدليل الشرعي، لتشمل أبعادًا مفاهيمية وقيمية ووجدانية واجتماعية وعقدية عميقة. الآن، وفي ضوء هذا الفهم الجديد، حان الوقت لنعود إلى المحاولة الدعوية الأولى التي قامت بها الأخت "حليمة"، ونضعها تحت "مجهر التحليل" لنفهم بدقة لماذا كان هذا المدخل محكومًا عليه بالفشل غالبًا، حتى لو لم تكتشف حليمة حقيقة تخصص جارتها.

إن تشريح هذه المحاولة ليس الهدف منه لوم الأخت حليمة على نيتها الصادقة، بل هو تمرين منهجي أساسي لنا جميعًا لنتعلم من الأخطاء الشائعة ونكتشف حدود ما يمكن تسميته بـ "المدخل المعرفي" المباشر، ونعرف متى يكون هذا المدخل غير كافٍ أو حتى ضارًا.

تشخيص خاطئ = وصفة علاجية خاطئة

الخطأ الجوهري الأول الذي وقعت فيه حليمة هو خطأ في التشخيص. لقد انطلقت من فرضية أحادية وبسيطة جدًا: "المشكلة هي نقص المعلومة". وبناءً على هذا التشخيص القاصر، كانت وصفتها العلاجية منطقية بالنسبة لها: "الحل هو توفير المعلومة" (عبر إهداء الكتب المتخصصة).

هذا يشبه طبيبًا يصف دواءً للحمى لكل مريض يدخل عيادته دون أن يكلف نفسه عناء فحص المريض لمعرفة سبب الحمى الحقيقي (هل هو التهاب؟ عدوى فيروسية؟ ضربة شمس؟). قد ينجح الدواء بالصدفة، لكنه في أغلب الحالات سيفشل، بل وقد يضر. إن "هندسة الدعوة" الفعالة تبدأ دائمًا بالتشخيص الدقيق لا بالحلول الجاهزة.

أخطاء "المدخل المعلوماتي" المباشر في هذه الحالة:

افتراض الفراغ المعرفي لدى الآخر: يفترض هذا المدخل أن الآخر هو "وعاء فارغ" ينتظر منا أن نملأه بالمعلومات الصحيحة. هذا التجاهل لوجود شبكة مفاهيمية ومعرفية ووجدانية قائمة بالفعل لدى المدعو هو خطأ منهجي كبير. فالجارة لم تكن صفحة بيضاء، بل كانت لديها شبكتها الخاصة التي تتصارع فيها مفاهيم مختلفة.

إيصال رسائل ضمنية خاطئة: حتى لو كانت النية طيبة، فإن تقديم كتب متخصصة بشكل مباشر لشخص لم يطلبها قد يوصل رسائل ضمنية سلبية وغير مقصودة، مثل:

رسالة الاتهام بالجهل: "أنتِ لا تعرفين دينكِ، وأنا هنا لأعلمكِ".

رسالة الاستعلاء المعرفي: "أنا أمتلك المعرفة الصحيحة وأنتِ تفتقرين إليها".

رسالة التركيز على الخطأ: "أنا لا أرى فيكِ كل صفاتك الجيدة، بل أرى فقط هذا الخطأ وأريد تصحيحه".

هذه الرسائل الضمنية تثير "النظام الوجداني" الدفاعي لدى المتلقي، وتجعله ينفر من الرسالة والداعية معًا، حتى قبل أن يفتح الكتاب.

عدم ملاءمة الوسيلة للحالة: كانت الوسيلة (كتب فقهية تفصيلية) غير مناسبة تمامًا لطبيعة المشكلة الحقيقية (التي هي على الأرجح مفاهيمية وقيمية ووجدانية وليست نقصًا في الأدلة). لقد كانت بمثابة تقديم "دليل استخدام" تقني لشخص مشكلته ليست في كيفية تشغيل الجهاز، بل في قناعته بجدوى استخدامه أصلاً.

تجاوز مرحلة بناء الثقة: لقد قفزت حليمة مباشرة إلى مرحلة "تقديم الحل" قبل أن تبني جسرًا من الثقة والصداقة الحقيقية مع جارتها. في القضايا الحساسة التي تمس قناعات الشخص وهويته ومظهره، لا يمكن إحداث تغيير إيجابي إلا من خلال علاقة إنسانية دافئة وموثوقة. الثقة تسبق التلقي.

التركيز على "السلوك" قبل "المفهوم": كان هدف حليمة هو تغيير السلوك (ارتداء الحجاب). لكنها حاولت فعل ذلك دون أن تعالج الشبكة المفاهيمية التي تنتج هذا السلوك. هذا يشبه محاولة إزالة الثمار الفاسدة من شجرة مع ترك الجذور المريضة كما هي؛ ستنمو ثمار فاسدة أخرى لاحقًا. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الجذور (المفاهيم)، لا من الفروع (السلوك).

خاتمة: متى يكون المدخل المعلوماتي نافعًا؟

هل هذا يعني أن "المدخل المعرفي" (تقديم الأدلة والمعلومات) خاطئ دائمًا؟ بالطبع لا. إنه يكون نافعًا وضروريًا عندما يكون التشخيص الصحيح للحالة هو بالفعل "نقص المعلومة" أو "وجود معلومة خاطئة". فالشخص الذي يسأل بصدق عن دليل مسألة ما، أو يبحث عن معرفة لم تصله، يكون تقديم المعلومة له هو الاستجابة الصحيحة.

لكن الدرس المستفاد من محاولة الأخت حليمة هو أن المدخل المعرفي يصبح قاصرًا أو ضارًا عندما تكون المشكلة أعمق من ذلك؛ عندما تكون المشكلة في هيمنة مفاهيم معارضة، أو وجود صدمات وجدانية، أو خلل في منظومة القيم والأولويات. في هذه الحالات، يجب أن نتجاوز دور "ناقل المعلومة" إلى دور "مهندس المفاهيم" الحكيم الذي يبدأ بالتشخيص، ثم التعاطف، ثم بناء الجسور، قبل أن يبني الحجج.

في المقال التالي، سنبدأ في استكشاف كيف يمكن لحليمة أن تبني هذه الجسور من خلال "المدخل التعاطفي".


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.