استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مقال: في ذكرى رحيله 52 ماذا يمكن أنيقدّمه مالك بن نبي اليوم؟قراءة فيراهنية الفكر البنّابي وأفقه الحضاري


يُعدّ مالك بن نبي (1905–1973) أحد أبرز المفكرين المسلمين الذين حاولوا الإجابة عن سؤال النهضة بطريقة تتجاوز الإصلاح الديني التقليدي والنقد الأيديولوجي الغربي معًا. فقد كان مهتما و منشغلا، كما كتب في شروط النهضة، بـ«مشكلتنا الحضارية لا السياسية ولا الاقتصادية»¹[1]، أي بمصدر الخلل في الفكر الذي يحكم الوجود الإسلامي الحديث.

اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، يعود السؤال: ماذا يمكن أن يقدّمه فكر بن نبي للعالم الإسلامي المعاصر؟

هل لا يزال مشروعه صالحًا لقراءة تحوّلاتنا؟ أم أنه أصبح جزءًا من الذاكرة الفكرية؟

 من الوعي بالانحطاط إلى الوعي بالبناء

تميّز بن نبي عن معاصريه بقدرته على نقل النقاش من مستوى التنديد بالانحطاط إلى مستوى البحث في شروط البناء.

لقد لاحظ أن الاستعمار ليس سبب التخلّف بل نتيجته، قائلاً:

“إنّ المشكلة ليست في أن يُستعمَر شعب، بل في أن توجد في داخله القابلية للاستعمار”[2].

بهذه الفكرة وضع يده على جوهر الأزمة: الإنسان المسلم لم يفقد فقط السلطة أو الثروة، بل فقد الفاعلية الحضارية.

وفي عالم اليوم، حيث تتغير أشكال السيطرة من الاستعمار العسكري إلى الاستلاب الثقافي والرقمي، تبدو فكرة “القابلية للاستعمار” أكثر راهنية من أي وقت مضى.

فالشعوب التي تستهلك التكنولوجيا دون أن تنتجها، وتستورد الأفكار دون أن تُبدع بدائلها، ما تزال محكومة بذات القابلية القديمة ولكن بصيغ جديدة.

 

 مفهوم «نظام الأفكار» في زمن الفوضى المعرفية

يرى بن نبي أن الحضارة لا تقوم بالثروات أو النوايا، بل بـ«نظام الأفكار»[3]، أي بالمنظومة الفكرية التي تنظم علاقة الإنسان بالزمان والمكان والآخر.

وفي عالم اليوم، حيث يعيش الإنسان ما يسميه زيغمونت باومان «الحداثة السائلة»، يصبح استحضار فكر بن نبي ضرورة لترميم المرجعية الفكرية.

فالمشكل، كما يقول: "ليس في الأشياء التي نملكها، بل في الأفكار التي تملكنا"[4].

إنه يدعو إلى إعادة بناء الإنسان من الداخل، من وعيه بذاته كفاعل، لا كمستهلِكٍ لنتائج الآخرين.

وهذا بالضبط ما نفتقده في مجتمعاتنا التي تتنازعها التبعية التقنية والتشظّي القيمي.

 

 الإنسان كفاعل حضاري

أحد إسهامات بن نبي الكبرى أنه لم ينظر إلى الإنسان كمجرد كائن أخلاقي أو اقتصادي، بل كـمحور الحضارة.

ففي معادلته الشهيرة :

 

الإنسان + التراب + الوقت = الحضارة[5]

يربط بين العنصر البشري والمحيط والزمن بوصفها مكونات للفاعلية التاريخية.

وإذا كان القرن العشرون هو قرن الدولة، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإنسان المبدع، القادر على إنتاج المعنى والتقنية والوعي معًا.

وهنا تبرز أهمية رؤيته في إعادة مركزية الإنسان لا باعتباره "رعية"، بل "فاعلًا" في صناعة حضارته.

 

الثقافة كحامل للنهضة

اعتبر بن نبي أنّ الثقافة ليست مجرد معارف، بل «أسلوب حياة»[6].

ومن ثمّ، فإن النهضة لا يمكن أن تُستورد، لأن الثقافة هي الوعاء الذي تتكوّن فيه القيم والأفعال.

في زمن العولمة الثقافية، حين تُفرض القوالب الاستهلاكية والفنية على الشعوب، يمكن أن نجد في فكر بن نبي منهجًا لإعادة التفكير في الهوية الثقافية من داخل شروط التاريخ لا خارجه.

إنه لا يدعو إلى الانغلاق، بل إلى استيعاب العالم بلغة الذات.

كما يقول في فكرة الإفريقية الآسيوية: "ليست المشكلة أن نعيش في عالم الغرب، بل أن يعيش الغرب فينا دون وعيٍ منا"[7].

 

من “القابلية للاستعمار" إلى "القابلية للنهوض"

ما أحوج الفكر العربي والإسلامي اليوم إلى الانتقال من التذمّر إلى البناء.

بعد توقف الصعود الحضاري، لقد ادرج بن نبي مرحلة ما بعد الاستقلال «مرحلة ما بعد الموحدين»، أي مرحلة فقدان الزخم الإبداعي بعد الصعود الحضاري⁸.

واليوم، يمكننا أن نعيد قراءة فكر بن نبي لننتقل من قابلية الاستعمار إلى قابلية النهوض:

عبر بناء مشروع تربوي يستعيد الإنسان الفاعل.

وعبر خطاب دينيّ يحرّر الإيمان من التوظيف السياسي.

وعبر إصلاح ثقافي يوازن بين الأصالة والفاعلية.

هذه هي المداخل التي يمكن أن يقدّمها بن نبي اليوم لو أُعيد فهمه في سياق تحوّلات العصر الرقمي، لا كمجرد مفكر “تاريخي”، بل كموجّه لمستقبل التفكير الإسلامي والإنساني معًا.

خاتمة

إنّ فكر مالك بن نبي لا يُستدعى لتقديسه، بل لتفعيله.

لقد أراد أن يكون الفكر "هندسةً اجتماعية"[8]، أي مشروعًا لصياغة الإنسان الجديد، الذي يفكر بحرية، ويعيش بإيمان، ويعمل بفاعلية.

وفي زمن التبعية الجديدة، يبقى سؤال بن نبي هو السؤال المركزي:

كيف نصنع عالم الأفكار الذي يصنع عالم الأشياء؟

الجواب ما يزال معلقًا بيننا وبين قدرتنا على القراءة


يحي عباسي بن أحمد

  • [1] مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 1986، ص 12.
  • [2]المرجع نفسه، ص 43.
  • [3] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، 1970، ص 9
  • [4] المرجع نفسه، ص 25
  • [5] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق، 1971، ص 33.
  • [6] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، دمشق، 1979، ص 17.
  • [7] مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، دار الفكر، دمشق، 1970، ص 22.
  • [8]المرجع نفسه، ص 55.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.