استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المعراج الممتد: كيف تؤسس الصلاة لـ "فقه الحركة" في حياة الناهض؟


بعد أن أسس القرآن لواجب "الهجرة" و"الضرب في الأرض"، ينتقل في هذا المقطع مباشرة ليعالج التحدي الأكبر الذي يواجه "الإنسان المتحرك": كيف يحافظ على صلته بالله في خضم تقلبات الظروف ومشقة الحركة؟ 
هذا المقطع ليس مجرد تفصيل في "فقه صلاة المسافر" أو "صلاة الخوف"، بل هو "مدرسة" متكاملة في "فقه الموازنة"، تعلم "الناهض" كيف يجمع بين "ثبات الغاية" (الصلة بالله) و"مرونة الوسيلة" (شكل العبادة)، ليتحرك في الأرض وقلبه معلق بالسماء.

 الآية العمود: "الصلاة ككتاب موقوت" لا يسقط بحال

إن "الآية العمود" التي تمثل "القانون الحاكم" و"الدستور" الذي يفسر كل التشريعات في هذا المقطع هي قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ اُ۬لصَّلَوٰةَ فَاذْكُرُواْ اُ۬للَّهَ قِيَٰماٗ وَقُعُوداٗ وَعَلَيٰ جُنُوبِكُمْۖ فَإِذَا اَ۪طْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَۖ إِنَّ اَ۬لصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَي اَ۬لْمُومِنِينَ كِتَٰباٗ مَّوْقُوتاٗۖ﴾ (102)
 فهذا "الثبات" في أصل الواجب و"توقيته" هو الذي يفرض ضرورة "التكيف" مع الظروف، لا "إلغاء" الفريضة. وكما يوضح رشيد رضا رحمه الله، فإن "أداءها في أوقاتها مقصورا منها بشرطه خير من تأخيرها لقضائها تامة"، مما يؤسس لأولوية الوقت على كمال الهيئة. وحكمة هذا التوقيت، كما يلمح البقاعي رحمه الله، لها فائدتان متكاملتان: فائدة "للأبدان بما تسبب من الأرزاق" من خلال تنظيم إيقاع الحياة، وفائدة "للقلوب بما تجلب من المعارف والأنوار".

 "الحركة الأفقية" و"الحركة العمودية": ميزان حياة المؤمن

إن حياة المؤمن هي توازن دائم بين حركتين: "الحركة الأفقية" التي هي امتداده في عالم الشهادة من هجرة وجهاد وسعي في الأرض، و"الحركة العمودية" التي هي معراجه إلى عالم الغيب من صلاة وذكر وصلة بالله. والمشكلة التي يعالجها القرآن هي أن الحركة الأفقية بصخبها قد تعطل الحركة العمودية. فيأتي المنهج القرآني ليقدم الحل: لا توقفوا حركتكم العمودية، بل "كيّفوها" لتتناسب مع حركتكم الأفقية. فرخصة "قصر الصلاة" في السفر والخوف هي "التشريع" الذي يدعم "الحركة الأفقية" دون قطع "الحركة العمودية".

 "المعراج الممتد": من الصلاة كشعيرة إلى الذكر كحالة

إن قضاء الصلاة في المنهج القرآني ليس "نهاية" المعراج، بل هو "بداية امتداده". فالأمر ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ﴾ يأتي، كما يقول البقاعي رحمه الله، "لئلا يظن أنها [الصلاة] تغني عن مجرد الذكر". فالذكر هو "امتداد" لروح الصلاة في كل أحوال الحياة. وهنا يضع القشيري رحمه الله الفرقان الدقيق بين "الوظائف الظاهرة الموقوتة" كالصلاة، وبين "حضور القلب بالذكر المسرمد غير المنقطع". والناهض هو من يحول حياته كلها إلى "حالة ذكر" لا تنقطع، فتصبح حركته في الأرض امتدادًا لمعراجه إلى السماء ويصبح  الذكر استحضار  للقيم الربانية المركوزة في الفطرة.

"الرجاء" كوقود لمواجهة الألم

يقدم القرآن "علاجًا نفسيًا" لمشقة الحركة والقتال، وهو "الرجاء" الذي يصنع الفارق. فالقرآن يقرر أولاً المساواة في "عالم الشهادة": ﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾. فكلا الطرفين يعاني ويتألم. ولكن، يأتي بعد ذلك "الفارق النوعي" و"الامتياز" في "عالم الغيب": ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾. إن "الرجاء" في الأجر الأخروي هو "القيمة المضافة" التي تحول "ألم" المؤمن إلى "أمل"، وتمنحه القوة النفسية لمواصلة الطريق وتمنع عنه الوهن.

الخاتمة: فقه الحركة وبناء الأمة

إن هذا المقطع يؤسس لـ "فقه الحركة" الذي هو ضرورة للأمة الشاهدة. إن الأمة التي تتقن هذا "الميزان" بين "ثبات الغاية" و"مرونة الوسيلة"، والتي تحول "صلاتها" إلى "معراج ممتد" يصبغ كل حركتها، والتي تواجه "ألمها" بـ "رجاء" لا ينقطع، هي الأمة القادرة على "الضرب في الأرض" وبناء العمران ومواجهة التحديات دون أن تفقد صلتها بالسماء.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.