في مقطع يفيض بالألم والدروس، ينتقل بنا القرآن من قعود أمة عن الجهاد إلى جريمة فرد يقتل أخاه. وبين هذين المشهدين المأساويين، تشرق ومضة نور من حيث لا نتوقع: من غراب.
هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن الآية العمود (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا...) ليست مجرد تفصيل في قصة، بل هي بيان تأسيسي ودرس منهجي في أهمية سؤال كيف؟، وكيف أن هذا السؤال هو المفتاح الذي يفتح أبواب العمران وينجي من آفات الجهل والاستبداد.
الآية العمود: مدرسة الغراب كأول درس في العمران
إن الآية العمود التي تمثل نقطة التحول في وعي الإنسان الأول هي قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اَ۬للَّهُ غُرَاباٗ يَبْحَثُ فِے اِ۬لَارْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِے سَوْءَةَ أَخِيهِۖ قَالَ يَٰوَيْلَت۪يٰٓ أَعَجَزْتُ أَنَ اَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا اَ۬لْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِے فَأَصْبَحَ مِنَ اَ۬لنَّٰدِمِينَ﴾ (33)
هذه اللحظة ليست مجرد تعليم لكيفية الدفن، هي كما يصفها ابن عاشور رحمه الله : "مشهد أوّل حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة". فالحضارة تبدأ من احترام كرامة الإنسان حتى بعد موته. وهذا الدرس لم يأتِ من وحي مباشر، بل من غراب، في تجلٍ عميق لرحمة الله في تعليم خلقه. وكما يقول القشيري رحمه الله : "فإذا أشكل عليهم [الخلق] وجهٌ من لطائف الحيلة سبَّب الله شيئاً يَعَرِّفُهم ذلك به".
سؤال كيف؟ كمفتاح للعمران ومواجهة للتحديات
إن الجوهر الذي تعلمه القاتل من الغراب ليس الدفن، بل هو أهمية سؤال كيف؟. فالآفات كلها تأتي من الغفلة عن هذا السؤال المفصلي. فالقاتل استبد برأيه لأنه لم يسأل كيف يعالج حسده، وبنو إسرائيل قعدوا لأنهم لم يسألوا كيف يواجهون الجبارين. إن سؤال كيف؟ هو فعل مواجهة للتحديات، وهو الذي يزيل الحجب عن الجهل ويفتح باب الجواب الإلهي الذي هو النور. إنه السؤال الذي يحول الرغبة في الهدف إلى خطة عمل ومنهج لتحقيقه.
التقوى كحصانة ضد الاستغناء والاستبداد
إن المانع الحقيقي الذي يمنع الإنسان من طرح سؤال كيف؟ بصدق، هو مرض الاستغناء والاستبداد. فـ الاستغناء غفلة عن سؤال كيف، والاستبداد جهل، كما فهمنا من منهج الحرالي المراكشي رحمه الله. فالذي يستغني عن الله وعن الأسباب الصحيحة لا يرى حاجة للسؤال، والذي يستبد برأيه يظن أنه يملك كل الأجوبة. ويأتي الحل في الآية الميزان التي هي جوهر القصة: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فـ التقوى هي الحصانة المزدوجة التي تمنع من هذين المرضين؛ فالمتقي يفتقر إلى الله فلا يستغني، ويخاف الله فلا يستبد.
من الندم الطبيعي إلى القانون الكلي
إن قصة ابني آدم لا تنتهي بالندم فقط، بل تؤسس لـ قانون يحمي العمران كله. فندم القاتل ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ هو على الأغلب، كما يرجح ابن عاشور رحمه الله، ندم طبيعي على خسارته الدنيوية، "لم يكن ناشئاً عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة، فلذلك لم ينفعه". ولهذا، يأتي التشريع الإلهي ليكون هو الرادع الحقيقي، فينتقل القرآن من التجربة الفردية إلى القانون الحضاري الكلي: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا... فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...﴾. إنه القانون الذي يحمي حق الحياة كأساس لكل عمران.
الخاتمة: غزة... وفقه الكيف
إن القرآن يعلمنا منهجية التعلم وفقه السؤال قبل أن يعلمنا الأجوبة. وهذا المنهج ليس مجرد تاريخ، بل هو واقع حي نراه اليوم رأي العين. إن صمود غزة الأسطوري كان خلفه السؤال عن كيف. فسألوا: كيف نحتمي من طائرات العدو التي تملأ السماء؟ فكان الجواب هو عالم الأنفاق تحت الأرض. وسألوا: كيف نصل إلى أعمق نقطة في كيان عدونا؟ فكان الجواب هو الصواريخ. وسألوا: كيف نصمد أمام كل هذا الدمار والخذلان؟ فكان الجواب هو مجالس القرآن التي تبني اليقين وتثبت القلوب.
إن الناهض الذي يتعلم من مدرسة الغراب ومدرسة غزة أهمية سؤال كيف؟، ويتسلح بـ التقوى ليطرحه بصدق وتواضع، هو الذي سيجد الأجوبة الإلهية، ويحولها إلى عمران راشد يحترم كرامة الحياة التي هي أول وأعظم أمانة.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
