استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

أمانة المنهج: كيف يؤسس القرآن الاستقامة على الحكم بما أنزل الله في كل شؤون الحياة؟


في مقطع يكشف عن أعمق صور الانحراف، يضع القرآن يده على الجذر الذي تنبع منه كل هذه الأمراض: خيانة الأمانة. فهذا المقطع ليس مجرد تعداد لجرائم أهل الكتاب، هو بيان تأسيسي لفلسفة الإسلام. هذا المقال هو محاولة لتحرير مفهوم الحكم بما أنزل الله من سجنه السياسي، لنرى كيف أنه في جوهره منهج حياة شامل، وعملية تنزيل لآيات الله في كل قرار، وكيف أن الاستقامة في جميع مراتبها هي الثمرة الحقيقية للوفاء بأمانة الاستحفاظ العظمى.

 الجملة العمود: الاستحفاظ كعقد أمانة شامل

إن العمود الفقري للمقطع (الحزب 12، الثمن 3) هو ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا اَ۬لتَّوْر۪يٰةَ فِيهَا هُديٗ وَنُورٞ يَحْكُمُ بِهَا اَ۬لنَّبِيٓـُٔونَ اَ۬لذِينَ أَسْلَمُواْ لِلذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّٰنِيُّونَ وَالَاحْبَارُ بِمَا اَ۟سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اِ۬للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَۖ فَلَا تَخْشَوُاْ اُ۬لنَّاسَ وَاخْشَوْنِۖ وَلَا تَشْتَرُواْ بِـَٔايَٰتِے ثَمَناٗ قَلِيلاٗۖ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اَ۬للَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْكَٰفِرُونَۖ﴾ (46)
فهذه الآية هي التي تشخص المرض الجذري، وهو خيانة الأمانة التي أدت إلى ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾. وكما يوضح ابن عاشور رحمه الله، فإن "الاستحفاظ: الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته". فهذه الأمانة لا تقتصر على فئة، بل تشمل الولاة والعلماء وكل من ورث هذا المنهج، ووظيفتها مزدوجة: الاستحفاظ بالعلم والفهم، والشهادة به في الواقع.

تشريح أمانة الاستحفاظ: من حفظ النص إلى تنزيل الحكم

إن حفظ الكتاب الذي كُلّف به الأمناء ليس مجرد حفظ للألفاظ، بل هو حفظ شامل غايته التنزيل العملي. وكما يفصل الفخرالرازي رحمه الله، فإن للحفظ وجهين متلازمين: "أن يحفظ فلا ينسى" أي حفظ النص، و"أن يحفظ فلا يضيع" أي حفظ الحكم. وإن أداء هذه الأمانة لا يكتمل إلا بالحكم بما أنزل الله، الذي هو في معناه الواسع "عملية تنزيل الإنسان لآيات الله واقعًا". وهذا هو جوهر الاستقامة التي هي غاية الدين، والتي لا تتحقق إلا بتحويل النص إلى حياة.

الحكم بما أنزل الله كاستقامة في جميع المراتب

إن ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ...﴾ ليست آية سياسية تخاطب الحكام فقط، بل هي ميزان يزن استقامة الإنسان في كل شؤون حياته. فكل قرار هو لحظة حكم. فالحاكم يحكم في قضائه، والعالم في فتواه، والتاجر في بيعه وشرائه، والزوج في عشرته لأهله، والإنسان مع نفسه يحكم على شهواته وأهوائه. فإما أن نحكم فيها بـ ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ فنكون من أهل الاستقامة، أو نحكم فيها بالهوى فنكون من أهل الاعوجاج، وبذلك تشمل الآية كل فرد بقدر مسؤوليته.

من خيانة الأمانة إلى ظلم النفس

إن الحكم بغير ما أنزل الله، سواء على مستوى الدولة أو الفرد، ليس مجرد خطأ، بل هو النتيجة الحتمية لسلسلة من خيانات الأمانة، وهو في جوهره ظلم للنفس. فإن ﴿تَحْرِيفَ الْكَلِمِ﴾ و﴿أَكْلَ السُّحْتِ﴾ هي كلها أعراض لمرض واحد، هو خيانة أمانة الاستحفاظ. وهذا الإعراض عن الحكم بما أنزل الله هو ظلم للنفس بحرمانها من خير المنهج ونوره، وإيرادها موارد الهلاك والشقاق.

الخاتمة: من الائتمان الفردي إلى العمران المستقيم

إن القرآن يعلمنا أن إقامة حكم الله في الأرض تبدأ من إقامة حكم الله في النفس. إن الناهض الذي يستشعر أمانة المنهج الملقاة على عاتقه، ويسعى لتنزيل أحكامه وقيمه في كل قراراته، هو الذي يحقق الاستقامة في ذاته. والأمة المكونة من أفراد مستقيمين هم أمناء على المنهج، هي وحدها الأمة القادرة على بناء عمران مستقيم، قائم على العدل والحق الذي أنزله الله.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.