مقدمة: كيف نزيد الأثر ونصل إلى الأبعد؟
في كل زمان ومكان، ينهض دعاة مخلصون لحمل أمانة البلاغ، باذلين أوقاتهم وجهودهم التي لا تقدر بثمن. وتراثنا الدعوي، الممتد عبر القرون، حافل بالحكمة والبصيرة والمنهجيات التي أثمرت خيراً كثيراً. فهذا المقال لا يبدأ من نقطة الصفر، بل يقف بكل احترام وتقدير أمام هذا الجهد العظيم.
إنما سؤاله هو: في عالم اليوم، حيث تغيرت أدوات التواصل وتعقدت النفس البشرية، وحيث يستخدم خصوم الفكرة أدق علوم النفس للتأثير في الناس، كيف يمكننا أن نمكّن دعوتنا ونزيد من أثرها؟ هذه ليست دعوة لمسح تراثنا الدعوي، بل هي دعوة صادقة لإغنائه وتمكينه، عبر إعادة اكتشاف الحكمة النبوية الأصيلة في ضوء ما كشفه لنا العلم الحديث عن أسرار العقل والقلب.
النقلة الأولى: إضافة فقه القلب إلى فقه العقل
تراثنا غني بعلم الكلام والمنطق والجدل لإثبات الحقائق الإيمانية، وهذا ركن أساسي لا غنى عنه. لكننا إذا تأملنا المنهج النبوي، نجد اهتماماً لا يقل عنه بتأليف القلوب. لقد أثبت علم الأعصاب اليوم حقيقة مذهلة تدعم هذه الحكمة النبوية: العاطفة هي حارس البوابة لعقل الإنسان. فنحن كبشر نشعر أولاً، ثم نفكر ثانياً.
التكامل المقترح: إلى جانب الحجة المنطقية، نحن بحاجة لإتقان فقه القلب. أن نتعلم كيف نبني جسوراً من التعاطف والألفة تفتح لنا بوابة القلوب، فتستقبل العقول بعدها الحجة والبرهان. إنها دعوة للجمع بين قوة الدليل، ودفء التواصل الإنساني.
النقلة الثانية: إحياء فن السردية القرآنية
القرآن الكريم هو كتاب القصص والسرديات الأعظم، فهو يقدم الحقائق الكبرى دائماً في سياق قصصي ينسجها في نسيج واحد مترابط يعطي للعالم معنى. إن ما يسميه الخبراء اليوم التأطير ليس إلا اسماً حديثاً لفن قرآني أصيل.
التكامل المقترح: بالإضافة إلى تقديم الأحكام الشرعية كمعلومات مجزأة، نحن مدعوون لإحيائها بوضعها في سردية الإسلام الكبرى كما فعل القرآن. عندما نقدم أحكام الأسرة كجزء من قصة السكينة والمودة والرحمة، ونقدم أحكام المعاملات كجزء من قصة الأمانة والعمران، فإننا ننتقل من توصيل المعلومة إلى بناء القناعة، مقتدين بالمنهج القرآني الفريد.
النقلة الثالثة: فهم سر القدوة علمياً
إن مفهوم القدوة الحسنة هو أصل من أصول ديننا. لكن العلم اليوم يقدم لنا تفسيراً بيولوجياً مدهشاً لسر قوة القدوة عبر ما يسمى خلايا المرآة العصبية. هذه الخلايا تجعلنا نتأثر ونحاكي حالات من حولنا بشكل تلقائي.
التكامل المقترح: إن فهم هذه الآلية يزيدنا يقيناً بأهمية ما نملكه. فهو يؤكد أن صدق المثال ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو أقوى أداة دعوية على الإطلاق. فحالة الداعية من سكينة ورحمة ويقين تنتقل إلى الناس بشكل أعمق من أي كلمات. هذه البصيرة تدعونا للاهتمام بتربية الداعية باطناً بنفس قدر الاهتمام بإعداده ظاهراً.
النقلة الرابعة: توسيع الدائرة من إصلاح الفرد إلى تحصين المجتمع
إن دعوة الأفراد وإصلاحهم هي أساس العمل وجوهره. لكن تراثنا يخبرنا أيضاً أن الأنبياء لم يأتوا لإصلاح أفراد فقط، بل لإصلاح أقوامهم ومجتمعاتهم. فالفرد يسبح في محيط ثقافي جبار يؤثر فيه.
التكامل المقترح: إلى جانب الجهد المبارك في الدعوة الفردية، نحن بحاجة إلى فكر دعوي مؤسسي يعمل على تحصين الرأي العام ثقافياً. هذا يعني إنتاج المعرفة والمحتوى الإعلامي والفني الذي يقدم رؤية الإسلام كبديل حضاري، ويحصن المجتمع ضد السرديات الهدامة. إنه توسيع لدائرة العمل لتشمل فقه الواقع وفقه التأثير الاجتماعي.
خاتمة: دعوة للجمع بين الأصالة والمعاصرة
إن هذه النقلات ليست دعوة للاختيار بين الأصالة والمعاصرة، بل هي دعوة لتحقيق التكامل المبدع بينهما. إنها دعوة للغوص في تراثنا لاستخراج كنوزه، واستخدام بصائر العصر كمجهر يكشف لنا عن عمق ودقة الحكمة النبوية التي بين أيدينا.
نحن اليوم بحاجة ماسة إلى الداعية والمفكر الذي له قدم راسخة في التراث، وعين بصيرة بالواقع، وقلب متصل بالسماء. داعية يجمع بين قوة الحجة وفقه القلب، وبين بلاغة اللسان وصدق المثال، ليكون بحق وارثاً نبوياً قادراً على مخاطبة إنسان عصره باللغة التي يفهمها، وبالحكمة التي يحتاجها، مساهما في تشكيل رأي عام راشد يكون سياجا للخيرات التي جاء بها الإسلام.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
