إن من سنن الله تعالى في خلقه أن يجعل جِلّة العلماء في الغالب من الفقراء، كما قيل:
إنَّ من حكمة الله تعالى أن يكون جلة العلماء في الغالب فقراء؛ لأنَّ الفقير نفسه أقرب إلى التواضع، وقلبه مفرغ من كدّ العيش في الضياع والمنازل.
وبهاتين الصفتين: التواضع، وتقليل العوائق والشواغل عن القلب يُنال العلم، ويحصل الحفظ والفهم.
وقد صدق الشاعر حين قال مخاطبًا الفقر:
قلتُ للفَقْرِ : أين أنتَ مُقيم؟
إنَّ بيني وبينهم لإخاء
قال لي : في عَمَائِمِ الفقهاء
وعزيز عليَّ قَطْعُ الإِخاءِ!
وفقر العلماء ليس فقرَ ضعف ولا مهانة، بل فقر جيب، وغنى قلب، فقلوبهم بما تحوي من الإيمان وحسن الظن بالله تفوق أموال الأغنياء وكنوز الأثرياء… ولكن لكل شيء قدر… والله يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والقناعة مع العلم والعمل إلا من اختص وأحب.
ولهذا قيل:
والغنى بلاء كما الفقر بلاء! وإنما يتفاضل الناس بالعمل الصالح، والقلب القانع الخاشع. (مواقف وکلمات صنعت علماء : ٣١-٣٧)
ثم قال الحكيم:
شُغِلْنَا بِكَسْبِ العِلمِ عن مكسَبِ الْغِنَى
كما شُغِلُوا عن مكسب العلم بالوَفْرِ
وصارَ لهُم حَظٌّ من الجَهْلِ وَالْغِنَى
وصار لنا حَقٌّ مِن الْعِلمِ والفَقْرِ (١)
سئل بزرجمهر: العلم أفضل أم المال؟ قال: العلم. قيل: فلم نرى العلماء على أبواب الأغنياء؟
قال: ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال، وجهل الأغنياء بفضل العلم (٢)
ولم يكن الأنبياء بمعزل عن الفقر، بل كان أكثرهم فقراء، كما قال الماوردي: وقد كان أكثر أنبياء الله تعالى مع ما خصهم الله به من كرامته فقراء لا يجدون بلغة، ولا يقدرون على شيء… (٣)
وقال الشاعر:
إِذَا فَنَعْتَ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقُوتِ
أَصْبَحْتَ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرُ مَمْقُوتِ
يَا قُوتَ نَفْسِي إِذَا مَا دَرَّ خَلْفَكَ لِي
فَلَسْتُ آسَى عَلَى دُرٍّ وَيَاقُوتِ (٤)
قال أبو شامة الدمشقي: وينبغي لمن نظمه الله في سلك العلماء أن يعرف قدر نعمته عليه… فلا يحزن لما يفوته من الدنيا… فإن ذلك من علامات قبوله ولحوقه بسلفه…
ثم استشهد بالحديث: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم العلماء، ثم الصالحون (٥)
وقال شاعر آخر:
فقرٌ كَفَقْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ
وَصَبَابَةٌ لَيْسَ الْبَلَاءُ بِوَاحِدِ
بين الغنى والكفر… والفقر والإيمان
وقال الشاعر ببلاغةٍ تُظهر حكمة القدر: كَمْ كَافِرٍ بِاللَّهِ تزدادُ أَضْعَافًا
عَلَى كُفْرِهِ أَمْوَالُهُ
وَمُؤْمِنٍ يَزْدَادُ إِيمَانًا
عَلَى فَقْرِهِ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ
يَا لَائِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ
مُشْتَغِلًا يَزْرِي عَلَى دَهْرِهِ
الدَّهْرُ مَأْمُورٌ يَنْصَرِفُ الدَّهْرُ عَلَى أَمْرِهِ (٦)
وقال الشيخ محمد الخضر حسين: الإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم… والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد (٧)
نماذج عظيمة من فقراء العلماء
(1) ربيعة الرأي بلغ به الفقر أنه:
كان يأكل ما يُلقى على مزابل المدينة من الزبيب وعصارة التمر
وقال مالك: إنَّ هذا الأمر لن ينال حتى يذاق فيه طعم الفقر (٨)
(2) أبو صالح السمان وكان فقيرًا تاجرًا للزيت، ومع ذلك قال أبو هريرة عنه: ما كان على هذا أن يكون من بني عبد مناف
وكان يقول: ما كنت أتمنى من الدنيا إلا ثوبين أبيضين أجالس فيهما أبا هريرة (٩)
ثم صار: القدوة، الحافظ، الحجة (١٠)
(3) أبو يوسف القاضي قال: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلّ (١١) ثم صار قاضي القضاة.
(4) عبد القادر الجيلاني قال: كنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل… وبلغت الضائقة أن بقيت أيامًا لا آكل فيها طعامًا… (١٢)
(5) الإمام الشافعي نشأ يتيمًا فقيرًا: فلم يكن عند أمي ما تعطيني أن أشتري به قراطيس… فكنت أكتب على العظام (١٣)
وقال الشاعر:
لا يُدرك العلم بطال ولا كَسِلٌ
ولا ملول ولا من يألف البشر (١٤)
(6) الإمام إبراهيم الحربي
قال: كانت أمي تهيئ لي باذنجانة مشوية أو باقة فجل… (١٥)
✍🏻ابو خالد القاسمی
اضافة:
أما الترف والمبالغة في زخارف الدنيا، فلا شك في ضررهما على الأفراد والجماعات والحضارات..
وأما السعي لتحسين معاش الفرد -عالما كان أو غيره- فواجب شرعي لأن الفقر عدو ومصدر إضعاف للمؤمنين
إلا أن يقف السعي ضرورة فلا حرج آنئذ..
كما أن واقع الأمة حين يغلب الإستبداد ويكون المال دولة بين الأغنياء، ليس بمبرر لجعل الفقر فضيلة وشرطا للصلاح!!
وكما جاء في المقال، فإن الإبتلاء يقع بالفقر وبالغنى معا!!
والمطلوب ميزان شرعي-أخلاقي بينهما
فإذا قويت مؤسسات المجتمع ودوله، زاد الرخاء وتحسنت احوال الناس جميعا..
والعكس بالعكس
والنهضة عملية إصلاح وتوازن وعدالة تطال عوائدها جميع فئآت المجتمع
فهرس المراجع حسب تسلسل الأرقام۔
(١) صفحات من صبر العلماء، ص 161
(٢) أدب الدنيا والدين، ص 37
(٣) الآداب الشرعية والمنح المرعية، 3/486
(٤) المصدر نفسه (نفس الموضع)
(٥) سنن ابن ماجه، حديث 4313؛ المستدرك للحاكم 5463
(٦) الآداب الشرعية والمنح المرعية، 3/486–487
(٧) الأعمال الكاملة، مضار الإسراف، 4/137
(٨) جامع بيان العلم، 1/410؛ الدلائل النورانية، ص 154–155
(٩) العلم للزهير، ص 83
(١٠) سير أعلام النبلاء، 5/36
(١١) تاريخ بغداد، 6/522
(١٢) الهمة طريق القمة، ص 41
(١٣) جامع بيان العلم، 1/413؛ مناقب الشافعي، 1/94–95
(١٤) قطوف الريحان، ص 255
(١٥) تاريخ بغداد، 6/522
(١٦)مواقف وکلمات صنعت علماء: ٣١-٣٧
