تُعدّ مسألة التوحيد أصل الأصول التي قامت عليها دعوة الأنبياء، بل لا يُفهَم الدين ولا يستقيم النظر في الشرع إلا من خلال هذا المبدأ الراسخ. وقد جاء القرآن بإبراز هذا الأصل من جهات متعددة، فذكر دلائل الخلق والتكوين، وأشار إلى آيات التدبير والإحكام، وربط بين المعرفة الصحيحة بالله وبين الاستقامة على سبيل عبادته. ويظهر من مجموع النصوص أنّ توحيد الربوبية ليس فكرةً ذهنية ولا تصوراً فلسفياً، بل هو حقيقةٌ تتجلى في الكون والحياة وتتحقق في ضمير الموحّد، ثم تمتد إلى سلوكه وعلاقته بربّه.
(١) الربوبية في بناء الوعي الإيماني
أصل الربوبية يقوم على الإيمان بأنّ الله هو المنشئ للخلق، المدبّر لشؤونهم، القائم عليهم بجميع النعم الظاهرة والباطنة. فالإنسان يُدرك من خلال نظره في نفسه و في ما يحيط به أن ثمة قوةً فوق قدرته، وحكمةً تمتد وراء إدراكه، ونظاماً لا يتصور العقل أن يتأتى اتفاقاً. هذا الإدراك ينقله القرآن من مجرّد التأمل إلى مرتبة اليقين، لأنّ النصّ الإلهي يضع بين يدي الإنسان الصورة الكاملة لحقيقة الوجود، خالقٌ لا يشبه الخلق، وقدرةٌ لا يعجزها شيء، وإحاطةٌ تشمل دقائق الأمور وجليلها.
فإذا تأمّل المرء في أطوار الإنسان من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة، ثم ما يُودَع في جسده من القوى والعقول والملكات، وجد أنّ هذه الإنشاءات المتتابعة لا يمكن أن تنسب إلى غير الرب سبحانه. وكذلك ما نراه من حركة الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار، وانضباط السنن الكونية، وتنوع المخلوقات وتوافقها—كلّ ذلك يشير إلى ربٍّ واحدٍ لا شريك له.
(٢) من الربوبية إلى الألوهية
دعوة الأنبياء لم تقتصر على تذكير الخلق بأنّ لهم رباً يتصرف في الكون، بل كانت الدعوة قائمة على إفراد هذا الرب بالعبادة. فالانتقال من المعرفة إلى الالتزام هو جوهر الرسالة، والمعرفة من غير التزام لا تثمر هدايةً ولا تورث اتباعاً. ولهذا نجد القرآن يقرر أنّ الذين أقرّوا بربوبية الله في الأمم السابقة لم يلتزموا بما تقتضيه هذه المعرفة، فوقعوا في صرف الدعاء والنسك والذبح والنذر لغيره، رغم اعترافهم بأنّه الخالق الرازق.
والألوهية في حقيقتها حالٌ يعيشه المؤمن؛ يستسلم فيها لربّه، ويجعل أمره كلّه إليه، فلا يلتفت بقلبه إلى غيره، ولا يلجأ عند الشدة إلا إلى بابٍ واحد. فمن عرف أنّ خالقه هو المدبّر، وأنّ ما في الكون كله من قوى خاضعة لأمره، لم يجد سبيلاً إلى التعظيم إلا في الاتجاه إليه والانقياد له.
(٣) صور الانحراف في واقع الناس
انحراف الناس في هذا الباب قديم، وهو يتجدد بتجدد العصور، ويتبدل بتبدل البيئات. فحين تغيب رؤية التوحيد الجامعة تتولّد الأوهام، ويستسلم الناس لأنماط من التعلق لا تستند إلى دليلٍ عقلي ولا نقلي. وتتنوع هذه الأشكال بين الاستغاثة بالمقبورين، والالتجاء إلى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وتعليق التمائم والرموز في ظنٍّ أن لها تأثيراً خفيّاً، أو اعتقاد أن بعض الأشخاص يملكون قوى تمنح الأمن أو تدفع البلاء.
هذه المظاهر على اختلاف مراتبها تُظهر خللاً في التفريق بين معنى الرب الذي يملك الضر والنفع، وبين المخلوق الذي لا يملك شيئاً من ذلك. وإذا استقرّ في قلب الإنسان أنّ الخلق كلهم محتاجون إلى ربهم، لم يجد في قلبه فراغاً لتعلقٍ بغيره، لأنّ الحاجة إذا استوت في أصلها انتفى معها أيّ معنى للوساطة الموهومة.
(٤) دلالة الكون على التوحيد
النظر في الكون سبيلٌ من سبل الهداية. وقد دلّ القرآن على هذا الجانب في مواضع كثيرة، فجعل التفكر فريضةً عقلية وروحية معاً. فحين ينظر الإنسان إلى ما في السماوات من اتساع، وما في الأرض من إحكام، وما في الجبال من ثبات، وما في البحار من عجائب، تتجدد في نفسه آفاقٌ من المعرفة تقوده إلى إدراك عظمة الخالق. ومع تراكم هذه الشواهد يقوى في النفس معنى الربوبية، ويترسخ الإيمان بوحدة الخالق، ثم تتحول هذه المعرفة إلى سلوك عمليّ يقوم على الخشية والإنابة والإخلاص.
(٥) أثر التوحيد في بناء الإنسان والمجتمع
التوحيد ليس قضيةً كلامية ولا جدلاً فلسفياً، إنما هو مبدأ حياة. فحين يتشبّع القلب بمعنى الألوهية ترتفع عنه التبعية للظنون، وتنقطع صلته بالمخاوف الوهمية، وتستقيم علاقته بالكون والحياة. فيستمد المؤمن قوته من يقينه، ويستمدّ طمأنينته من ثقته بأنّ له رباً لا يخذله، وأنّ ما يجري عليه في الدنيا يجري بحكمة لا يشذّ عنها شيء.
وإذا انتقلت هذه القيم إلى المجتمع صار أكثر قدرةً على مواجهة الفتن، وأكثر تحمّلاً للمصائب، لأنّ الروح الجامعة التي يقوم عليها التوحيد تمنح الأفراد طاقةً من الثبات، وتغلق أبواب الاضطراب الذي تنشأ عنه الانقسامات. فلا يجد الخرافة موطئاً، ولا تستقر البدعة، لأنّ البناء العقدي حين يكون محكماً لا تنفذ إليه الشبهات.
(٦) ضرورة تجديد الوعي بالتوحيد
مع تسارع الحياة وتعدد المؤثرات وضعف التأمل، يحتاج الإنسان إلى مراجعة دائمة لمعنى التوحيد في نفسه، حتى لا يتحول جوهر الإيمان إلى ألفاظٍ خافتة لا حضور لها في السلوك. فالعلم إذا لم يثمر عملاً ذبل، والدين إذا لم يلامس الوجدان جمد، ومن هنا كانت الحاجة إلى إحياء هذا الأصل وملاحظة حضوره في كل جانب من جوانب الحياة.
وكلما عاد الإنسان إلى النصوص، وإلى النظر في الكون، وإلى مراجعة ما يقع في قلبه من التعلقات، ازداد بصيرةً، وانكشفت له المواضع التي قد يختلط فيها المعنى أو يتسرب إليها الوهم. وهذا المسار ليس ترفاً فكرياً، بل هو حاجة للإنسان ليبقى إيمانه محفوظاً من العوارض، مصوناً من التشويش الذي قد يأتيه من العادات والتقاليد أو من الضغوط النفسية والاجتماعية.
يتبين من هذه المعالجة أنّ الربوبية ليست سوى المدخل الضروري إلى الألوهية، وأنّ التوحيد في حقيقته بناءٌ متصل الأطراف، يشدّ بعضه بعضاً. فمن استقام له النظر في الخلق والتدبير استقام له النظر في العبادة والطاعة، ومن اضطربت عليه معاني الربوبية اضطرب عليه معنى العبودية.
والوعي بهذا الأصل يُشكّل أساس الحياة الدينية والفكرية للمؤمن، لأنه يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وربّه، ويمنحه قدرةً على فهم العالم في ضوء سنن الخالق، ويعينه على أن يعيش بإيمان واضح، لا تشوبه الخرافة، ولا تفسده الظنون.
✍🏻 ابو خالد
اضافة:
كلام سليم بارك الله فيك
ولكي تظهر ثمراته في الأجيال، لا بد من صياغة التوحيد (ربوبية وألوهية) صياغة إجتماعية -حضارية!!
أي البحث عن مقومات التصور التوحيدي، في السلوكات والعلاقات الواقعية!!!
كيف تتوافق العلاقات والسلوكات مع التصورات التوحيدية والرسالية التي تمثلها، وتدعي الإنتماء إليها!!؟؟
وكيف تتناقض معها!!؟؟
ثم : كيف السبيل الى رصد التوافق أو التناقض علميا وميدانيا في التجارب التاريخية المتعددة!!؟؟
وعند تحقيق نتائج واضحة، آنذاك يمكن العودة الى القرآن والسيرة النبوية لضبط العلاقة بين النتائج والمبادئ..
وفي كل دورة بحث تتضح هذه العلاقة أكثر ..وبتفاصيل وأمثلة أوضح..
ومن رصد التعديلات واكتشاف الأخطاء العملية ،، يتركب ويتعمق العلم السليم بالدين وبالدنيا
وتقترب الامة عمليا أكثر فأكثر من الريادة والشهادة والمشاركة العالمية في بناء العمران الإنساني وفق أصولها
