إنَّ مقام العبودية هو أشرف المقامات وأعلاها، وهو الغاية التي خُلق الخلق لأجلها، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
غير أنّ العبودية ليست لونًا واحدًا، ولا تظهر حقيقةُ صدقها في أوقات اليسر والنعيم فحسب، بل أعظم ما تتجلّى وتصفو في أوقات المكروه والشدائد والابتلاءات. وهذا المعنى الدقيق هو الذي أبرزه الإمام ابن القيم رحمه الله في نصّه البديع، حيث قرّر قاعدة جليلة في السير إلى الله، وهي أن العبد لا يُعرف صدقُ عبوديته إلا حين يبتليه الله بما يكره.
الابتلاء… امتحانٌ لا إهلاك
يقول الإمام ابن القيم:
فإنَّ الله لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته.
فالابتلاء رسالة رحمةٍ، وليس صكَّ غضب؛ هو امتحان يظهر به معادنُ الرجال وحقائقُ الإيمان. فلو كان العبد ينعم في الرخاء مستكثرًا من الطاعات، ثم إذاحلّ البلاء جزع وضعف وتراجع، دلّ ذلك على أن عبوديته كانت عبوديةَ عادةٍ وراحة، لا عبودية إخلاصٍ وصدق.
أما من ثبت لله في المكاره كما ثبت في المواسر فهو العبد الصادق الذي أراد الله رفعتَه وتزكيتَه.
فإنّ لله على العبد عبوديةً في الضراء كما له عبوديةٌ في السراء، وله عبودية فيما يكره كما له عبودية فيما يحب.
وهذه قاعدة من أعظم قواعد السير والسلوك:
فالناس غالبًا يُعطون الله من الطاعة ما يوافق أهواءهم وما تلين له قلوبهم، فإذا تعارضت العبادة مع رغبة النفس أو هوى القلب أو مشقة الجسد، انكمش الإيمانُ وضعفت الهمّة.
أما خواصّ العباد، فهم الذين يرون كل حالٍ بابًا إلى الله:
إن نِعَمَ الله كانت عليهم سعوا في شكره.
وإن ابتلاهم، قابلوا ذلك بـ الصبر والرضا والتسليم.
وإن دعتهم الشهوة المباحة أطاعوا، وإن دعتهم الشهوة المحرمة امتنعوا.
وهنا يظهر تفاوت الناس، ويتجلّى صدق المقامات.
أمثلة العبودية في المحبوب والمكروه
مثلاً:
١. العبودية في المحبوبات
الوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية.
مباشرة الزوجة الحسناء التي يميل إليها القلب عبودية.
النفقة على الزوجة والعيال عبودية، بل قد تكون من أعظم القربات.
وهذا الصنف من العبودية فيه لذة للقلب، وراحة للنفس، وموافقةٌ للطبع، ولذلك يسهل على كثير من الناس.
٢. العبودية في المكروهات
الوضوء بالماء البارد في شدّة البرد عبودية عظيمة، لأن النفس تنفر منها.
ترك المعصية مع شدة الداعي إليها مع عدم خوف من البشر عبودية خالصة؛ لأنها لله وحده.
النفقة في الضراء عبودية أرقى، لأنها تُظهر التجرد واليقين وحسن الظن بالله.
هذه المواطن تكشف قوة الإيمان، لأن العبد يقف فيها بين خيارين:
إمّا الهوى، وإمّا الله.
فإذا اختار الله وهو يشتد ألمه، ويعظم شوق نفسه لما تُحرم منه، ارتفع عند الله وارتقى في مدارج السالكين.
ولكن فرقٌ عظيم بين العبوديتين.
فعبودية السراء يشترك فيها معظم الناس، بينما عبودية البلاء لا يقوم بها إلا العارفون بالله.
المقام الأعلى: العبودية في الحالين
فمن كان عبدًا لله في الحالتين… فذلك الذي تناوله قوله تعالى:
أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.
هذا وعدٌ عظيم بالكفاية، لكن لِمَن؟
لعبدٍ صادقٍ في السراء والضراء، صابرٍ في البلاء، شاكرٍ في الرخاء، مستسلمٍ لله في كل حال.
وفي القراءة الأخرى: عِبادَهُ، وهي وإن كانت جمعًا إلا أنها لا تخرج عن المفرد؛ لأنّ "العبد" إذا أُضيف عَمَّ، فكأن الآية تقول:
"أليس الله كافيًا لكل عبدٍ صادقٍ التزم عبوديته؟"
وهؤلاء هم الذين تتولاهم عناية الله، ويكفيهم، ويحفظهم، ويرفع درجاتهم.
ثمرات العبودية في المكاره
ومما تجنيه النفس المؤمنة من هذا المقام الرفيع:
١. رفعة المنزلة عند الله
لأن منازل الناس عند الله تتفاوت بقدر صبرهم وصدقهم.
٢. تزكية النفس وتطهير القلب
فالابتلاء يكشف العيوب ويهذّب الأخلاق ويقوّي الإرادة.
٣. زيادة الإيمان واليقين
فمن ذاق مرارة الابتلاء وجد بعدها حلاوة الرضا.
٤. تحقيق معنى العبودية الشاملة
بحيث يصبح العبد عبدًا لله في كل حال، لا عبدًا لهواه.
٥. الخروج من ضيق النفس إلى سعة الإيمان
فالعابد في المكاره ينال سكينةً لا يجدها غيره.
خاتمة
إنّ العبودية في المكاره هي ميزان الرجال، ومظهر الإخلاص، وعنوان المحبّة الصادقة لله تعالى. فمن استقامت له عبوديته في الضراء كما استقامت في السراء، كان من أولياء الله الذين كفاهم الله، ورعاهم، واصطفاهم، ورفعهم درجاتٍ عنده.
نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من عباده الصادقين الذين يعبدونه في كل حال، ويرضون به في كل قضاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
✍🏻 ابو خالد