بالعودة إلى ما قاله السيد سانجيف شوبرا ، M.B.B.S، M.A.C.P، وهو طبيب أمريكي هندي المولد ، وأستاذ الطب وعميد التعليم الطبي السابق في كلية الطب بجامعة هارفارد : إن أسعد الناس على هذا الكوكب لديهم أربع صفات :
١- لديهم أصدقاء وأصحاب صالحون… والأصحاب هنا هم العائلة التي يختارها الإنسان لنفسه ، لا الذين تجمعه بهم صلة الدم فقط .
٢- القدرة على السماحة والصفح مع الآخرين ، والتخلص من العصبية والحقد .
٣- حب العطاء للآخرين والمقرّبين منهم ، رغبة في إسعادهم .
٤- شعور دائم بالامتنان للأشياء التي حولهم .
اليوم أود الحديث عن البند الثاني بالتحديد : القدرة على امتلاك صفة السماحة والصفح .
وهذا ليس مجرد مبدأ أخلاقي ، بل قانون نفسي وروحي له آثار مباشرة على صاحبه قبل أن ينعكس على الآخرين .
فقصة الرجل الذي بشّره النبي ﷺ بالجنة لم تكن لأنه كان كثير صلاة أو صيام ، بل لأنه قال : لا أبيت وفي قلبي على أحد شيء.
أي إنه ينام وقلبه صافٍ ، بلا ضغائن .
هذا الحديث وحده يكفي ليُظهر أن الصفح ليس فضيلة اجتماعية فقط ، بل عبادة قلبية تَرفع صاحبها درجات .
وفي القرآن الكريم : "فاصفحِ الصفح الجميل " . وقال المفسرون : الصفح الجميل هو الصفح الذي لا عتاب فيه ولا منّة .
وقال تعالى : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، فربط الله بين مغفرته للإنسان وبين مغفرة الإنسان للآخرين ، وكأن الصفح يفتح باب رحمة خاصة لصاحبه . و العفو ليس ضعفًا ، بل قوة نفسية تعرف أن الغضب يطفئ النور الداخلي ، وأن الكراهية عبء يحمله الإنسان على ظهره بلا داعٍ .
وبعلم النفس ، ويذكر أنّ هناك دراسات حول علاج التسامح ، تبيّن أن الأشخاص الذين مارسوا التسامح الواعي لمدة أسبوعين فقط : انخفضت لديهم معدلات القلق ، ومشاعر الغضب ، وتحسّن النوم ، وارتفعت مشاعر الرضا والسعادة بشكل ملحوظ و بنسب مختلفة .
وهناك دراسة أخرى لرابطة علم النفس الأمريكية APA ذكرت أن التسامح : يقلّل من إفراز الكورتيزول (هرمون التوتر) ، ويرفع هرمونات السيروتونين و الأوكسيتوسين المرتبطة بالطمأنينة ، ويحسّن جهاز المناعة ، أي أن الصفح صحة بدنية بقدر ما هو صحة نفسية .
و من المهم ما أشار إليه الطبيب روبرت هلوستيج حين ذكر الفرق بين المتعة والسعادة ؛
فالمتعة تأتي من الأخذ وتزول بسرعة ، بينما السعادة تأتي من العطاء… ومنها العطاء النفسي عبر السماحة .
والعفو إذن ليس موجهًا للآخر فقط ، بل هدية يقدمها الإنسان لنفسه .
إنه يحرر قلبه من السجن الداخلي . فالإنسان يعتقد أنه يعاقب الآخر بالكراهية ،لكنه في الحقيقة يحبس نفسه في الغضب . والصفح يكسر هذا القيد ويمنح شعورًا فوريًا بالخفة .
وعلى العكس ، فإن الحقد يستنزف الدماغ عبر التذكر المستمر للحدث المؤلم ، بينما الصفح يوقف هذا النزيف النفسي ، ويعيد للإنسان تركيزه على الحياة ، ويبني ثقته بنفسه ، ويفتح أمامه باب العلاقات الطيبة من جديد . ولا يُطلب من كل شخص أن ينسى الماضي ، ولكن أن يختار ألا يكون أسيرًا له .
هناك مقولة مهمة لنيلسون مانديلا ، حين خرج من السجن بعد ٢٧ سنة ، قال :
حين خرجت من الباب نحو الحرية ، علمت أنني إن لم أترك مرارتي خلفي ، فسأظل في السجن .
فالسجن ليس دائمًا جدرانًا … أحيانًا يكون جرحًا داخل الإنسان .
وفي اليابان أيضًا يوجد مبدأ يسمى MA ، وهو ترك مساحة في القلب للآخرين … حتى للأخطاء .
وهذا المبدأ مرتبط بارتفاع معدلات الرضا عند كبار السن .
وأخيرًا : السماحة ليست ضعفًا ، بل فن حماية النفس من السموم العاطفية .
وهي ليست عطاءً للآخر ، بل عطاء للنفس قبل كل شيء . والصفح لا يعني التنازل عن الكرامة أو الحقوق ، ولا يعني إعادة الثقة بمن أساء ، بل هو قرار يحرّر القلب من ثقل الغضب ، مع بقاء الحكمة في التعامل وحماية النفس من الأذى المتكرر ، و إن مجتمعًا يتعلم الصفح ، هو مجتمع قادر على تجاوز آلامه وبناء مستقبل أفضل . ولعل كلمة واحدة قالها ذلك الرجل الذي بشّره النبي ﷺ بالجنة تختصر كل شيء :
لا أنام وفي قلبي غِلٌ على أَحدْ .
زياد ريس
٣٠/١١/٢٠٢٥
