مقدمة : بينَ العزمِ الإنسانيِّ والمشيئةِ الإلهية
كُلُّ عملٍ ناجح، وكُلُّ مشروعٍ مُثمِر، وكُلُّ خُطوةٍ نحو الإصلاحِ والنهوض، لا تبدأُ إلا بفكرةٍ تتحوّلُ إلى عزمٍ، وعزمٍ يُترجَمُ إلى تخطيط، وتخطيطٍ يهدِفُ إلى فِعلٍ ملموسٍ في المُستقبل. إنَّ التفكيرَ في الغد، والاستعدادَ لهُ، وتحديدَ الأهدافِ والوسائل، هو جُزءٌ أصيلٌ من الطبيعةِ البشريةِ ومن مُقتضياتِ العقلِ والحِكمة. ولكن، كيفَ يضبِطُ الإسلامُ هذا التطلُّعَ المشروعَ نحو المُستقبل؟ وكيفَ يُهذِّبُ حماسَ الإنسانِ وعزمَهُ حتى لا يتحوّلَ إلى غُرورٍ أو جَزمٍ مُطلَقٍ يتعارضُ مع الإيمانِ بقُدرةِ اللهِ ومشيئتِهِ النافِذة؟ تأتي آيةٌ كريمةٌ في سورةِ الكهفِ لترسُمَ لنا منهجًا ربّانيًا مُتوازنًا يجمعُ بينَ الأخذِ بالأسبابِ والتوكُّلِ على المُسبِّبِ سُبحانه.
التوجيهُ القُرآني: لا جَزمَ إلا بمشيئة
في سياقِ توجيهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يأتي هذا الأدبُ الإلهيُّ الرفيعُ في قولِهِ تعالى:
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا﴾ (الكهف : 24 )
هذهِ الآيةُ الكريمةُ لا تنهى عن التخطيطِ أو العزم، بل هي تفترِضُ وجودَهُما. صيغةُ "إني فاعلٌ" تدُلُّ على عزمٍ وتوجُّهٍ حقيقيٍّ نحو الفِعل. ذِكرُ "الغد" يُشيرُ إلى وجودِ خُطّةٍ زمنية. فالآيةُ لا تُخاطِبُ المُتردِّدَ أو الحالِم، بل تُخاطِبُ من عقَدَ العزمَ وبدأَ التخطيط. ولكنّها تضعُ ضوابِطَ ومنهجًا لهذا التخطيطِ وهذا العزم:
النهيُ عن الجَزمِ المُطلَق ﴿وَلَا تَقُولَنَّ...﴾: النهيُ هنا مُنصَبٌّ على القَطعِ والجَزمِ بالفِعلِ المُستقبليِّ وكأنَّ الأمرَ بيدِ الإنسانِ وحدَه، وكأنَّ النجاحَ مضمونٌ بقُدرتِهِ وتخطيطِهِ فقط. إنّهُ نهيٌ عن الغُرورِ وعن نسيانِ القُدرةِ الإلهيةِ المُهيمِنة.
الضابِطُ الأساسي: ربطُ الأمرِ بالمشيئةِ ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾: المَخرَجُ من هذا النهيِ هو تعليقُ الأمرِ بمشيئةِ الله. قولُ "إنْ شاءَ الله" ليسَ مُجرّدَ كلمة، بل هو منهجُ حياةٍ يتضمّن:
الأدبَ مع الله: فكما أشارَ الإمامُ الطبري، هو "تأديبٌ من اللهِ عزَّ ذِكرُهُ لنبيِّهِ".
الاعترافَ بالافتقار: وأنّنا "لا نملِكُ شيئًا من عِندِنا بل هو من عِندِهِ تعالى"، كما جاءَ في "التفسيرِ الأمثل".
تفويضَ الأمرِ لله: مع بَذلِ الجُهدِ والأخذِ بالأسباب.
تجسيدًا لتوحيدِ الأفعال : الإيمانُ بأنَّ كُلَّ شيءٍ لا يقعُ إلا بمشيئةِ اللهِ وخلقِهِ.
ما وراءَ المشيئة : استحضارُ السُنَنِ الإلهية
وهُنا يأتي فَهْمٌ أعمقُ لربطِ الأمرِ بالمشيئة. فمشيئةُ اللهِ سُبحانه تجري دائمًا وفْقَ حِكمةٍ وسُنَنٍ وقوانينَ أودَعَها في خلقِهِ وتدبيرِهِ لأمورِ عِبادِه. فاستحضارُ المشيئةِ عندَ التخطيطِ هو أيضًا تذكيرٌ ضِمنيٌّ بـ:
ضرورةِ فَهْمِ هذهِ السُنَن: التخطيطُ الناجِحُ ليسَ تخطيطًا في فراغ، بل ينطلِقُ من فَهْمٍ للواقِعِ وقوانينِهِ وسُنَنِ اللهِ المُطّرِدةِ فيه.
عدمِ مُخالَفةِ السُنَن: يجبُ أنْ تتوافَقَ خُطَطُنا مع السُنَنِ الكونيةِ والاجتماعيةِ والشرعيةِ التي أمَرَنا اللهُ بمُراعاتِها والأخذِ بها، فمُحاولةُ تحدّيها أو القَفزِ عليها غالبًا ما تُؤدّي للفشل. "فسُنَنُ اللهِ غلّابة".
وحدةِ الأخذِ بالأسبابِ والتوكُّلِ: فالاجتهادُ في العملِ وفْقَ السُنَنِ التي نعلَمُها هو عينُ الأخذِ بالأسبابِ المأمورِ به، وهو في ذاتِ الوقتِ تجسيدٌ للتوكُّلِ الحقّ، لأنّهُ ثِقةٌ بمنْ وضَعَ السُنَنَ وأمَرَ باتّباعِها، واعتمادٌ على مشيئتِهِ في تحقيقِ النتائِجِ من خِلالِها أو بما هو أعلى مِنْها. فالأخذُ بالسُنَنِ والتوكُّلُ على اللهِ ليسا أمرينِ مُنفصِلين، بل هُما وجهانِ لحقيقةِ العُبوديةِ الفاعِلةِ المُتوكِّلة.
عِلاجُ النِسيان.. والسعيُ نحو الرُشْد
ولأنَّ الإنسانَ ينسى، جاءَ التوجيه: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾. إذا نسيَ المرءُ أنْ يربِطَ عزمَهُ بالمشيئة، أو غفَلَ عن مُراعاةِ السُنَنِ في تخطيطِه، فالعِلاجُ هو المُبادرةُ بالعودةِ إلى اللهِ بذِكرِهِ والتفَكُّرِ في حِكمتِهِ وسُنَنِهِ فورَ التذكُّر. وكما رأى الإمامُ مالِك، فإنَّ الآيةَ "إنّما قُصِدَ بذلكَ ذِكرُ اللهِ عندَ السَهوِ والغَفلة". هذا الذِكرُ والتفَكُّرُ يُعيدُ الإنسانَ إلى الجادّةِ الصحيحة.
ثمَّ يأتي الدُعاءُ الذي يُعلِّمُنا إيّاهُ الله: ﴿وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا﴾. هذا الدُعاءُ يُجسِّد:
التطلُّعَ الدائِمَ للأفضل: عدمُ الرِضا بالحالِ والسعيُ المُستمِرُّ نحو "الرُشْدِ" الأقربِ والأتمّ.
الاعترافَ بأنَّ الهدايةَ للرُشْدِ من الله: طلبُ الهدايةِ منهُ سُبحانه.
الرُشْدَ كغاية: الرُشْدُ هُنا لا يعني فقطْ الصلاح، بل يشملُ الحِكمةَ وحُسنَ التدبيرِ والقُدرةَ على فَهْمِ السُنَنِ وتسخيرِها للخير.
منهجٌ مُتكاملٌ للتخطيطِ والفِعل:
تُقدِّمُ لنا هذهِ الآيةُ منهجًا مُتكاملًا للتخطيطِ والفِعلِ المُستقبلي :
خطِّطْ واعمَلْ بعزم: كُنْ "فاعِلًا"، ولا تتردّدْ في التخطيطِ للمُستقبل.
تأدَّبْ وتوكَّلْ: اربِطْ عزمَكَ وقولَكَ بمشيئةِ الله، واستشعِرِ افتقارَكَ إليه.
تفكَّرْ واستبصِرْ: ادرُسِ الواقِع، وافهَمِ السُنَن، واجعلْ خُطّتَكَ مُوافِقةً لها، مُدرِكًا أنَّ هذا السعيَ هو عينُ التوكُّل.
تذكَّرْ وتدارَكْ: إذا نسيتَ أو غفلتَ، فعُدْ إلى اللهِ بالذِكرِ والتفَكُّر.
اطلُبِ الرُشْدَ: اسعَ دائمًا للأفضل، واطلُبْ من اللهِ الهدايةَ لأقربِ طُرُقِ الرُشْد.
هذا المنهج، كما أشارَ سيد قطب، لا يدعو للكسَلِ بل "يمُدُّهُ بالثِقةِ والقُوّةِ والاطمِئنانِ والعزيمة"، ويجعلُهُ مُتقبِّلًا لقضاءِ اللهِ عندَ النجاحِ والفشل، "غيرَ مُتبَطِّرٍ ولا قَنوط". إنّهُ يُحقِّقُ الوحدةَ بينَ الجُهدِ البشريِّ المَبذولِ وفْقَ السُنَنِ وبينَ الاعتمادِ القلبيِّ على المشيئةِ الإلهية، وبينَ التخطيطِ الدُنيويِّ والغايةِ الأُخروية.
خاتِمة :
إنَّ قولَ "إنْ شاءَ الله" ليسَ مُجرّدَ تعبيرٍ تقليدي، بل هو منهجُ حياة، ومِفتاحٌ للتوفيق، ووِقايةٌ من الغُرور، وتذكيرٌ دائِمٌ بالصِلةِ باللهِ وبضرورةِ فَهْمِ سُنَنِهِ في خلقِهِ والأخذِ بها كعينِ التوكُّلِ عليه. فلنجعلْ هذا المنهجَ القُرآنيَّ هو نِبْراسَنا في كُلِّ ما نُخطِّطُ لهُ ونعزِمُ على فِعلِه، سائِلينَ اللهَ دائمًا أنْ يهديَنا لأقربَ من هذا رُشَدًا.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.