في كثير من الأسر الحديثة، نجد أن كل فرد يعيش في "عالمه الخاص" بشكل انعزالي، ما يؤدي إلى ضعف الترابط الأسري وتفاقم الفجوة بين الأجيال. تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في ما يُمكن تسميته بثلاثية التباعد الأسري:
• الأب في عالم الأفكار: منشغل بتحليل القضايا الفكرية أو الدينية أو السياسية.
• الأم في عالم الأشخاص: تهتم بالعلاقات والمشاعر ومراعاة احتياجات الآخرين.
• الأبناء في عالم الأشياء: مشغولون بالتقنية، الألعاب، الأدوات، والرفاهيات المادية.
هذا التوزيع قد يبدو طبيعيًا، لكنه إذا لم يُعالج بشكل متوازن، يؤدي إلى التفكك الأسري العاطفي والمعرفي، ويُنتج أُسرًا متعايشة تحت سقف واحد بلا تفاعل حقيقي.
أولًا: فهم المشكلة
• الأب يتعامل مع الحياة من منطلق "المفاهيم"، يطرح الأسئلة الكبرى، وقد ينشغل عن أسرته تحت شعار البحث أو العمل أو المشاريع الفكرية.
• الأم تنظر للحياة من خلال "العلاقات"، فتقيِّم الأمور بحسب مدى تأثيرها على الحب والتواصل والاهتمام.
• الأبناء يتفاعلون مع الحياة من منظور "الملموسات"، فهم لا يهتمون كثيرًا بما وراء الشيء، بل بكيفية استخدامه أو الاستمتاع به.
هذه العوالم الثلاثة ليست متعارضة بطبيعتها، بل مكملة، ولكن الخلل يقع عندما ينغلق كل طرف في عالمه دون جسور تواصل.
ثانيًا: الحل الجذري - بناء "البيت المتوازن"
الحل ليس في إجبار أحد على مغادرة عالمه، بل في بناء جسر متين بين العوالم الثلاثة، بحيث يحصل الآتي:
• الأب يوصل أفكاره بلغة محسوسة ومشوقة تربط الأبناء بواقعهم.
• الأم تعبر عن مشاعرها بطريقة تفهمها العقول وتُلامس القلوب.
• الأبناء يُدرّبون على تجاوز الشيء إلى معناه، ليربطوا بين الماديات والقيم والمفاهيم.
ثالثًا: تمارين وتطبيقات عملية
- 1. تمرين "الدائرة الأسرية":
• اجلسوا معًا، وكل فرد يرسم دائرة تمثل عالمه (فكرة – علاقة – شيء).
• ثم يكتب داخل الدائرة: ما الذي يشغله مؤخرًا؟
• بعدها: يُطلب من كل فرد أن يشرح عالمه بلغة يفهمها الآخرون.
• الهدف: تنمية "الوعي بالاختلاف"، و"القدرة على الترجمة"، و"إعادة بناء الجسور".
- 2. جلسة أسبوعية بـ"ثلاثة محاور":
• محور فكري: يقدمه الأب (قصة – فكرة – مبدأ) بلغة مبسطة.
• محور عاطفي: تقوده الأم (حديث عن موقف أثّر فيها، أو لعبة تعاونية).
• محور حسي/مادي: يشارك فيه الأبناء (لعبة، أو مشروع صغير، أو طبخة جماعية).
الفكرة أن تُدمج هذه العوالم الثلاثة في نشاط واحد، مما يعيد ترتيب الهرم الأسري من التوازي إلى التكامل.
- 3. مشروع الأسرة المشترَك: "نحن نُبدع سويًا"
• اختروا هدفًا مشتركًا (مثل تجهيز ركن هادئ للقراءة، أو إنتاج فيديو قصير عن قيمة أخلاقية).
• كل فرد يساهم حسب عالمه:
• الأب يخطط ويضع الرؤية.
• الأم تنسق وتخلق الانسجام.
• الأبناء ينفذون ويبدعون في التفاصيل.
• هذا المشروع يُعيد دمج العقول، والقلوب، والأيدي.
رابعًا: مقترحات يومية بسيطة
• وجبة يومية بلا أجهزة: ساعة واحدة تجمع أفراد الأسرة على الطعام والكلام دون تشتت.
• سؤال المساء الموحد: "ما أكثر شيء أفرحك اليوم؟" (يعزز لغة المشاركة).
• ورقة الأفكار الأسبوعية: يكتب كل فرد فكرة أو مشاعر أو أمنية ويضعها في صندوق يُفتح مساء الجمعة.
خامسًا: أثر إعادة الدمج
عندما يخرج الأب من برجه الفكري ليلعب مع أطفاله، وعندما تفتح الأم قلبها للأب وتشاركه فكرة ملهمة، وحين يُسأل الابن عن شعوره لا فقط عن دراسته أو هاتفه، تولد أسرة متفاعلة. الأسرة السعيدة ليست تلك التي لا تُخطئ، بل التي تتعلم كيف تقترب رغم الاختلاف.
خاتمة
إن فهم العوالم الثلاثة داخل الأسرة هو الخطوة الأولى نحو نهضة أسرية. والنهضة لا تبدأ من الكتب أو الندوات أو الشاشات، بل من البيت: حين يتحول من نزل للمبيت إلى حضن للتغذية النفسية والروحية والفكرية.
فلتكن رسالتنا لكل أسرة:
كل عالمك لا يُغني عن العالم الآخر… والنجاة في اللقاء، لا في الانغلاق.
د.سامر الجنيدي_القدس