في قلب الحضارة المعاصرة، ورغم كل ما حققته من تقدم مادي، يكمن مرض خفي وخطير، آفة تتسلل إلى النفوس والمجتمعات فتقلب موازينها: إنها آفة "الشره الاستهلاكي". هذه الآفة ليست مجرد عادة سيئة، بل هي منظومة حياة وفلسفة تحكم العالم، تقوم على "تسليع" كل شيء، فتتحول القيم النبيلة، والجمال، وحتى الإنسان نفسه إلى مجرد "سلعة" في سوق عملاق. وهنا يبرز الدور الأسمى للناهض، كقائد محرر للإنسان من عبودية الأشياء، ومن "حضارة التشييء" هذه.
الشره كـ "ضرورة حضارية": تفنيد أسطورة
تطرح الحداثة المادية شبهة كبرى، مفادها أن هذا "الشره" وهذا "الاستهلاك المفرط" هو الشرارة الضرورية للإبداع والتقدم. لكن هذه النظرة، من منظور إيماني، هي اعتراف خطير بأن هذه الحضارة تفتقر إلى دافع أخلاقي أسمى، فاضطرت إلى استخدام "الداء" كـ "دواء".
إن الإسلام يقدم دافعًا أقوى وأبقى للعمران، وهو دافع "عبادة الشكر". فالعمل والإبداع لا ينبعان من "شره" أناني لا يشبع، بل من "شكر" قلب ممتن يسعى لتوظيف نعم الله في تحقيق الخير والنفع، كما في قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾. فالشكر ينتج عمرانًا راشدًا، أما الشره فينتج حضارة منهكة ومستنزفة.
المنهج القرآني: دستور "الاستهلاك الراشد"
في مواجهة "الشره" و"الطغيان"، يقدم القرآن الكريم في آية جامعة من سورة طه، دستورًا متكاملاً للاستهلاك الراشد: ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ﴾ (طه: 81). هذا الدستور يقوم على معادلة متوازنة:
فالبداية هي الإذن بالتمتع ﴿كُلُوا﴾، فالإسلام ليس دين حرمان. لكن هذا التمتع مقيد بـ "الطيبات"، وهي كما يوضح الإمام الماتريدي لها وجهان: أن تكون "حلالات ما رزقناكم"، وأن تكون مما "تطيب به أنفسكم"، فالدين لا يمنع التمتع بالجودة واللذة الحلال.
والحد الفاصل هو النهي الحاسم: ﴿وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ﴾. والطغيان هنا، كما يشرح الماتريدي، هو "المجاوزة عن الحدود التي جُعلت"، وذلك بأن "تجعلونه في غير ما جُعل، وتتجاوزون عن القدر الذي جُعل". فهو طغيان "نوعي" باستخدام النعمة في معصية أو ظلم، وطغيان "كمي" بالإسراف وتجاوز حد الكفاية.
أما عاقبة هذا الطغيان، فهي السقوط المريع. ويكشف لنا الإمام القشيري عن الآلية الروحية لهذا السقوط، فيقول إن غضب الله يحل "بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة". فالطغيان هو الزلة الأولى، وعقوبتها أن يرفع الله عصمته عن العبد (الخذلان)، فيتهاوى من زلة إلى أخرى حتى يهلك. وهذا هو معنى قوله تعالى ﴿فَقَدْ هَوَىٰ﴾، أي، كما يقول الطبري والبقاعي، "تردّى فشقي" و*"سقط من علو"*، وهو نفس مصير فرعون الذي رآه بنو إسرائيل بأعينهم، كما يذكرنا سيد قطب.
دور الناهض: من "إقامة الصلب" إلى "تحرير الإنسان"
إن مهمة الناهض في مواجهة "حضارة التشييء" تبدأ من إحياء المنهج النبوي البسيط والعميق: "بحسب ابن آدم لُقيمات يقمن صلبه". فعليه أن يربي مجتمعه على:
تصحيح الغاية: فالغاية من الرزق هي "إقامة الصلب" للقيام بالواجب والعبادة، لا إشباع شهوة لا تنتهي.
ترسيخ مبدأ الكفاية: فالسعادة ليست في "الوفرة" التي تطغي، بل في "الكفاية" التي تغني.
الحفاظ على التوازن: بين حاجة الجسد وحاجة الروح، فلا يملأ الإنسان "وعاء بطنه" فيضيق المكان عن "نَفَس روحه".
بهذا المنهج، لا يعالج الناهض عرض "الشره" فقط، بل يعالج داء "عبودية الجماد" من جذوره. هو لا يحارب الثروة، بل يحارب "عبادة الثروة". هو يسعى لتحرير الإنسان من كونه "عبدًا للدينار والقطيفة"، ليعيده إلى مقامه الذي كرمه الله به: "عبدًا لله" وحده، وسيدًا على الأشياء، ومستخلفًا ليعمر الأرض بالخير والنفع، لا ليستهلكها بالشره والفساد. إنها معركة استراتيجية، فكما يقول سيد قطب، إن هذا التحذير جاء للقوم "كي لا تبطرهم النعمة، ولا يترفوا فيها فيسترخوا"، فالأمة المترفة لا تقدر على حمل أمانة النهضة.
كتب حسان الحميني،
والله الموقف.