وقف رسول الله ﷺ على الصفا، فنادى: "يا بني فلان... يا بني فلان... أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟". قالوا جميعًا: "نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا". فلما أخذ منهم شهادة "الصدق" في عالم الشهادة، نقلهم إلى عالم الغيب فقال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". لقد وضع أمامهم "الخطر" المحدق ليوقظ فيهم "الحذر". ويأتي القرآن ليكمل هذا المشهد، فيقدم "الوجه الآخر" الذي يوازن النذارة، وهو "البشارة" بالنعيم الأعظم الذي يفوق كل خيال.
إن اجتماع "الترهيب" من العاقبة السيئة، مع "الترغيب" في العاقبة الحسنة، هو الذي يولد "الطاقة" الجبارة في النفس البشرية. وفي آية عظيمة من سورة المطففين، لا يكتفي القرآن بوصف الجائزة، بل يفتح "ميدان السباق" الأكبر، ويوجه هذه الطاقة لتكون "محركًا حضاريًا" للعمران.
﴿خِتَٰمُهُۥ مِسْكٞۖ وَفِے ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ اِ۬لْمُتَنَٰفِسُونَۖ﴾ (المطففين: 26)
"ختامه مسك": صناعة الشوق وتحديد قيمة الجائزة
إن المنهج القرآني لا يبدأ بالأمر بالفعل، بل يبدأ بـ "صناعة الشوق" في القلب. فهو لا يصف لنا الجنة وصفًا جافًا، بل يأخذنا في رحلة حسية، لنتذوق رحيقها ونشم عبيرها. وكما يقول الإمام الطبري، فإن أرجح الأقوال في ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ هو أن "آخره وعاقبته مسك"، أي أن آخر جرعة منه تفوح بالمسك، في إشارة إلى لذة متجددة ومتصاعدة.
ويزيدنا الأستاذ سيد قطب إحساسًا بجمال المشهد، فيرى أن "الختم" بالمسك يلقي "ظل الصيانة والعناية" و*"الأناقة والرفاهية"*. فالقرآن يرفع من "قيمة الجائزة" في أعيننا، لأنه يعلم أن النفس البشرية، كما يوضح الإمام البقاعي، لا تتنافس إلا على ما تراه "نفيسًا جدًا".
"فليتنافس المتنافسون": تحرير الطاقة وتوجيهها
بعد أن أشعل "الشوق" في القلب، يأتي الأمر الإلهي ليحرر "غريزة التنافس" الفطرية في الإنسان ويوجهها. هو لا يلغيها، بل يقول: "بدلاً من أن تتنافسوا على متاع الدنيا الزائل، تعالوا إلى الميدان الحقيقي الذي يستحق المنافسة".
وهذا التنافس، كما يفسره الطبري، ليس مجرد أمنيات، بل هو "فليجدّ الناس فيه، وإليه فليستبقوا في طلبه، ولتحرص عليه نفوسهم". إنه "جد" و"سباق" و"حرص". ويوضح البقاعي أن أدوات المنافسة في هذا الميدان هي "كثرة الأعمال الصالحات والنيات الخالصة".
من "التنافس" إلى "العمران"
وهنا تتجلى عبقرية المنهج. فهذا "التنافس" على الآخرة ليس دعوة للرهبانية، بل هو "المحرك الأقوى" لعمران الدنيا. فلكي تسبق في هذا السباق، عليك أن تتنافس في "عمران الإنسان" (بالتزكية ومكارم الأخلاق) و"عمران الأرض" (بالأعمال النافعة التي هي من الباقيات الصالحات).
وهذا هو ما يراه الأستاذ سيد قطب كغاية عظمى لهذا التوجيه:
"...يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة... بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها. ويرفعها إلى آفاق أرفع... بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه!"
فالتطلع للآخرة هو "الوقود" الذي يمنحنا القوة لنصلح دنيانا دون أن نتلوث بها.
خاتمة: معادلة العمران الراشد
إن "العمران" الحقيقي ينبع من معادلة متكاملة: "قدم راسخة" في اليقين، و*"عين شاخصة"* إلى الموعود ("المسك")، و*"يد عاملة"* تأخذ بأسباب المنافسة وأدواتها.
ومهمة الناهض هي أن يحول "جماعته" من مجرد مستمعين إلى "متنافسين" في ميدان الخير. فالأمة التي يصبح ميدان التنافس فيها هو "الباقيات الصالحات"، هي أمة محكوم عليها بالرقي والعمران في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.