عُرف في عالم السياسة، بأن التحالفات تتغير وفقًا لمصالح القوى الفاعلة، وتذوب الشعارات تحت حرارة الضرورات، فلا عدو دائم ولا صديق أبدي؛ بل ميزان يحرّكه الواقع وتحكمه المصلحة.
وفي قلب هذا المشهد المعقد، يبرز دور السياسة الحقيقية كفنّ ومنهج متّزن، يحاول التوفيق بين ثوابت ومتغيرات العلاقات الدولية، لا سيما عند التعامل مع أنظمة سياسية أو دول عظمى ذات نفوذ وتأثير مثل روسيا الاتحادية، والذي حظي النظام السوري البائد بدعم قوي منها، سياسيًا، عسكريًا واقتصاديًا، قبل أن تتغير معادلة العلاقات عقب سقوطه المدوِّ في الثامن من ديسمبر 2024م.
لا يمكن لسورية الجديدة البقاء معزولةً عن العالم، فوجب عليها غزل علاقات استراتيجية قائمة أولًا على مصلحة الشعب السوري، فكيف تستطيع تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، والمصلحة الكبرى على الصغرى!؟
في 31 يوليو المنصرم، تلقّى وزير الخارجية السوري السيد "أسعد الشيباني" والوفد المرافق له دعوة رسمية لزيارة العاصمة الروسية موسكو، وذلك للقاء نظيره الروسي "سيرغي لافروف"، وأكد "الشيباني" على رغبة سورية في بناء علاقات جديدة مع موسكو قائمة على الاحترام المتبادل، كما جاء في تصريحه: "نمر بمرحلة مليئة بالتحديات، وهناك فرص كبيرة لسورية، ونطمح لئن تكون روسيا بجانبنا".
إن ميزان العلاقة لسورية كفاعل سياسي مهم في قلب الشرق الأوسط مع نظام شيوعي مثل روسيا؛ قائم على النحو التالي: ما هو حجم النفوذ والتأثير الذي تملكه موسكو؟ ما هو مقدار الأذى المتوقع من العِداء معها؟ وهل من الممكن توظيف العلاقة لتحقيق أهداف تخدم الأمة السورية، دون تفريط بالمبادئ والقيم الأساسية؟
إن هذا التقدير لا يعني الاستسلام كما فهمه الساسة السطحيون؛ بل هو فن الموازنة بين ما يجب فعله شرعًا وما يمكن فعله واقعًا!!
الواقعية السياسية في ضوء السياسة السورية:
كان دعم روسيا للنظام السوري البائد قد عكس حقيقة أن الدول الكبرى لا تتعامل بعاطفة أو مبدئية؛ بل بمصالح واستراتيجيات نفوذ، وبعد انتصار الثورة وتغيير النظام؛ بدأت موسكو تحاول إعادة تموضعها في سورية من جديد، وذلك عبر نسج علاقات مع الحكومة السورية في دمشــــق.
في هذا السياق، يمكن للسياسة السورية أن تتعامل مع روسيا -رغم ماضيها الأسود بارتكابها جرائم حرب بحق الشعب السوري- باعتبارها قوة لا يُستهان بها موجودة على الأرض، شريطة ألا يكون ذلك على حساب دماء الشعوب وكرامتها من جديد!!
فالنبي صلّى الله عليه وسلم قبِل صلح الحديبية رغم شروطه الظالمة ظاهريًا، لأنه كان يرى المصلحة الأبعد، فتنازل عن بعض الشروط الشكلية مقابل تحقيق اختراق استراتيجي أدّى لاحقًا إلى فتح مدينة مكة المكرمة، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون حين تفاوضوا مع خصوم العقيدة -الروم والفرس- حين اقتضت الحاجة، كما توجد أمثلة عديدة من التاريخ القديم والمعاصر، فبالرغم من التناقض الديني؛ تحالفت الإمبراطورية العثمانية مع فرنسا، لأن المصالح السياسية حتّمت ذلك التحالف في مواجهة المد الصفوي، وكذلك علاقة مصر في خمسينيات القرن الماضي بالاتحاد السوفييتي، دعمت نظام عبد الناصر سياسيًا وعسكريًا، إلى حين اصطدمت مصالحهما لاحقًا، وبالرغم من وجود تناقضات حادة في الموقف التركي؛ لم تقطع أنقرة علاقتها بموسكو وأوكرانيا ودمشق؛ بل حافظت على التوازن بين سياسة الردع والتعاون الاقتصادي.
بعد سقوط النظام البائد وقدوم نظام جديد يختلف عنه بالكلية وينفتح على التحول السياسي؛ فلا بد من النظر في السياسة الجديدة الذي سينتهجها، كما توجب النظر في: (النوايا، الأفعال والمواقف الجديدة) لا الوقوف عند التاريخ فقط، فيمكن حينها الانفتاح المشروط، الضغط الدبلوماسي لتحقيق مطالب الشعوب، دون القطيعة التامة أو التبعية العمياء.
إن فن السياسة الذي يتم الإشارة إليه؛ لا يعني التخلي عن المبادئ، لكنه كذلك لا يقفز على الواقع!! فحين تواجه دولة بحجم روسيا، يجب أن تكون الاستراتيجية قائمة على: (قراءة متأنية للواقع، استخدام كل أدوات التأثير الممكنة وتقديم المصالح الكبرى للأمة على ردود الفعل العاطفية).
وأخيرًا.. ليس من الحكمة أن تتحول المواقف الأخلاقية إلى أدوات للشلل السياسي؛ بل الحكمة أن نبقى أوفياء للحق، دون أن نُقصي أدوات التأثير أو نُسلم مقاليدنا للعواطف، فالسياسة الحقيقية؛ ليست انحناءً للعاصفة؛ بل ثباتٌ في المبادئ ومرونةٌ في الوسائل.
01 أغسطس 2025
الأغيد السيد علي