في رحلته عبر القرآن، يواجه القارئ مشاهد متقابلة تهز الوجدان: مشاهد لـ "رحمة الله" المتتابعة، وفي مقابلها مشاهد لـ "تمرد الإنسان" المستمر. ويأتي "الثمن السابع" من سورة البقرة ليضعنا في قلب هذا التناقض، فيعرض لنا "نفسية ملتوية" لا تستجيب للرحمة، فكان لا بد لها من منهج حاسم.
إن آية "أخذ الميثاق" تحت الجبل ليست مجرد قصة تاريخية عن عناد بني إسرائيل، بل هي "درس" عميق في "جدية التكليف"، وبيان لكيفية تحويل هذا "الأخذ بقوة" من مجرد إذعان، إلى "مشروع حضاري" متكامل.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 62)
لماذا "الطور"؟ تشريح النفسية الملتوية
إن اللجوء إلى "آية قهرية" كرفع الجبل لم يأتِ من فراغ. بل جاء بعد "تدرج" طويل من تمرد بني إسرائيل، كما يروي الطبري رحمه الله، من طلبهم رؤية الله جهرة، إلى تلكؤهم في قبول الكتاب. إنه "تشريح" لنفسية ملتوية لا تتواثق وتلتزم بالعهد إلا حين ترى "الطور" فوق رأسها. وهذا المشهد، وإن كان خاصًا بهم، إلا أنه يكشف عن "نموذج" بشري يتكرر، وعن "كيانات" طاغية لا تفهم إلا لغة القوة الرادعة.
"خذوا بقوة": من "جدية التكليف" إلى "عشق المسؤولية"
إن الأمر بـ "الأخذ بقوة" ليس دعوة للعنف، بل هو دعوة لـ "الجدية" المطلقة. وكما يجمع الطبري رحمه الله أقوال السلف، فإن القوة هنا هي "الجد والاجتهاد" و*"العمل بما فيه"* و*"الطاعة"* الكاملة. وهو ما يلخصه الأستاذ سيد قطب رحمه الله بقوله إن "أمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع... وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته".
ولكن الشيخ الشعراوي رحمه الله يرتقي بهذا المعنى، فيرى أن الأخذ بقوة ليس نابعًا من "إكراه"، بل من "اليقين بنفع المنهج". وهذا اليقين يولد حالة من "عشق التكليف"، فيصبح المؤمن هو من "يطلب" المزيد من الأوامر لأنه يرى فيها الخير والنفع.
من "الأخذ" إلى "العطاء": التكليف كمشروع حضاري
إن "الأخذ بقوة" ليس غاية في ذاته، بل هو "استلام لرأس المال" المنهجي لـ "استثماره" في حركة صلاح. وهنا يقدم الشيخ الشعراوي "فلسفة الأخذ والعطاء" الحضارية:
"التكليف أخذ من الله حتى تعطي به حركة صلاح في الكون... أنت تأخذ من الجيل الذي سبقك وتعطي للجيل الذي يليك.. ولكن لابد أن تضيف عليه. وهذه الإضافة هي التي تصنع الحضارات."،
إنها أمانات، تحتاج لمواثيق وقوة تحفظها،
فالناهض لا يقف عند "تطبيق" المنهج، بل "يضيف" إليه من فهمه واجتهاده، فيسلم الراية للجيل القادم وهي أكثر نماءً وقوة. وهذا هو جوهر العمران الذي لا يقوم إلا على "مواثيق" تحفظه.
خاتمة: طور جديد لعالم نقض المواثيق
إن "مشهد الطور" لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل كان "سنة" إلهية ذات وجهين: كان "نكالاً" للنفس الملتوية التي لا تتواثق إلا بالقوة، وكان "موعظة" للمتقين ليدركوا خطورة الاستغناء والاستبداد.
إن الإنسانية اليوم بأمس الحاجة لهذه الموعظة. فنحن نشهد "استهتارًا" غير مسبوق بـ "المواثيق الدولية"، ونرى أنف "المؤسسات الأممية" يُمرغ في الذل على يد كيان محتل يتبجح بأن هذه المؤسسات لم توجد إلا لحمايته. إن هذا "النقض الممنهج للعهود" هو "مس بإنسانية الإنسان"، وهو "الجرم" الأكبر الذي يهدم أسس العمران ويهدد العالم بالعودة إلى قانون الغاب.
وفي مواجهة هذه "النفسية الملتوية" التي تعيث في الأرض فسادًا، يحتاج العالم اليوم إلى "طور" يرتفع من جديد. ليس طورًا من حجر، بل طورًا من "مقاومة إنسانية" رادعة، تجبر هذا الكيان وحماته على الإذعان. مقاومة لا تهدف للانتقام، بل تهدف لإعادة "قدسية الميثاق"، وإجبار المعتدي على سلوك "مسار البناء لا الهدم"، و"العمران لا الظلم".
وعلى الناهض أن يدرك أن "الأخذ بقوة" لمنهج الله، هو الذي يؤهله ليكون جزءًا من هذا "الطور" الجديد، الذي يعيد للعالم ميزانه، وللعدل هيبته.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.