حين نتحدث عن مقاصد الإسلام، فإن أول ما يطرق أذهاننا هو إخراج الناس من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والعلم، كما قال تعالى:
"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (إبراهيم: 1)
لكن القرآن الكريم يكشف لنا بعدًا آخر من مقاصد الإسلام، وهو تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، سعادة متوازنة تجمع بين طهارة الروح وكرامة العيش. وهذا المعنى جمعته آية عظيمة في سورة النور:
"والله يعدكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (النور: 20)
فهنا نرى مقصدين متكاملين:
• المغفرة: ترفع عن الإنسان ذلّ المعصية وأثقال الذنوب، وتمنحه صفاء القلب وراحة الضمير.
• الفضل: وهو الزيادة في الخير، والرزق، والعلم، والقوة، وكل ما يحقق العزة ويزيل الفقر والحاجة.
الفقر والذل: عقبتان أمام رسالة الإنسان
الفقر ليس مجرد قلة المال، بل هو حالة حرمان تمنع الإنسان من ممارسة دوره الحضاري، وتجعله ضعيفًا أمام الضغوط، وربما تضطره للتنازل عن قيمه. أما الذل فهو نتيجة حتمية للفقر إذا لم يُعالج، إذ يفقد الإنسان استقلاليته، ويصبح تابعًا لغيره.
وقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من هاتين الآفتين، لأن الفقير المقهور لا يستطيع أن يعبد الله بحرية، ولا أن يشارك في إعمار الأرض بقوة.
الإسلام مشروع عزّة وكرامة
قال تعالى:
"وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (المنافقون: 8)
العزة في الإسلام لا تقوم على المال وحده، بل على الإيمان، والقوة، والحرية، والاستغناء عن الناس. فالمؤمن القوي العزيز غنيّ النفس، مستقلّ القرار، رافع الرأس.
ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ من الفقر لما فيه من ذل، ويحث على العمل والإنتاج، ويقول: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
وسائل الإسلام للانتقال من الفقر إلى الغنى
الإسلام وضع نظامًا متكاملًا لتحقيق الكفاية الاقتصادية، منها:
• العمل المنتج: جعل السعي في طلب الرزق عبادة.
• الزكاة والصدقات: لضمان عدم بقاء أحد في دائرة الحاجة.
• تحريم الربا والاحتكار: لحماية المجتمع من استغلال الأزمات.
• الأوقاف: لتمويل المشاريع الخدمية والتعليمية والصحية دون تحميل الناس أعباء ثقيلة.
هذه الوسائل ليست مجرد تعليمات اقتصادية، بل أدوات عملية لإخراج الناس من دائرة الفقر إلى دائرة الغنى، ومن دائرة الذل إلى دائرة العزة.
من المغفرة إلى الفضل
الآية الكريمة "والله يعِدكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا" ترسم خطًّا تصاعديًا في حياة المؤمن:
• البداية: تطهير النفس بالمغفرة، لأن المعصية ذلّ روحي قبل أن تكون ذنبًا.
• ثم: مدّ الإنسان بالفضل، أي الرزق والعلم والقوة، ليعيش عزيزًا كريمًا.
بهذا يتحقق التوازن بين جانب الروح وجانب الجسد، وبين متطلبات الآخرة وحاجات الدنيا، فلا يكون المؤمن ناسكًا منعزلًا عن الحياة، ولا مادّيًا غارقًا في الشهوات.
نماذج من السيرة
• الأنصار والمهاجرون: بعد الهجرة، كان المهاجرون فقراء، لكن النبي ﷺ جمع بين إصلاح قلوبهم بالمغفرة، ورفع مستواهم المعيشي بالشراكة مع الأنصار، حتى أصبحوا من أهل العزة.
• عبد الرحمن بن عوف: بدأ حياته مهاجرًا بلا مال، ثم بارك الله له في تجارته، فجمع بين فضل الرزق ومغفرة العمل الصالح.
خاتمة
مقاصد الإسلام ليست محصورة في إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، بل تشمل أيضًا إخراجهم من ذل الفقر إلى عزّة الغنى، ومن أسر الحاجة إلى حرية الاكتفاء. والآية الكريمة "والله يعدكم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" تلخّص هذه الرؤية المتكاملة: مغفرة ترفع شأن الروح، وفضل يعزّ الجسد والمجتمع.
إننا حين نطبّق هذا المقصد في واقعنا، نصنع مجتمعًا قويًا، كريمًا، منتجًا، عزيزًا، قادرًا على الشهادة على الناس، كما أراد الله لهذه الأمة أن تكون.
د.سامر الجنيدي_القدس