استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"وأقيموا الصلاة": كيف يخرج القرآن الناهض من 'سجن الأماني' إلى 'واقع العمران'؟


في رحلته لتشريح "الانحراف المنهجي" الذي أصاب ورثة النبوة، لا يكتفي القرآن بفضح أمراض القلب كالحسد والكبر، بل يغوص في "التجليات العملية" لهذه الأمراض، وأخطرها "الانفصام" في التعامل مع منهج الله. فبعد أن عرض القرآن جريمتهم في الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، يكشف عن "الوهم الكبير" الذي يبرر لهم كل ذلك، وهو "سجن الأماني"؛ الادعاء بأن الجنة حكرٌ عليهم لمجرد انتسابهم.
وفي مقابل هذا "الادعاء" الأجوف، لا يقدم القرآن جدلاً نظريًا، بل يقدم "المنهج العملي" للخروج من هذا السجن، وهو منهج يقوم على "الفعل المنتج" لا "الأمل الكاذب". إنه "وصفة علاجية" جامعة تتلخص في آية هي دعوة للانتقال من الادعاء إلى الإقامة:
﴿وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٞۖ﴾ (البقرة: 109)
"إقامة الصلاة": بناء "القامة" في مواجهة "الانحراف"
إن أول خطوة للخروج من "سجن الأماني" هي "إقامة الصلاة". و"الإقامة" ليست مجرد أداء، بل هي، كما توحي شبكتها اللغوية، بناء لـ "القامة" المستقيمة، وتحقيق لـ "الاستقامة" في السلوك، وتأسيس لـ "القوامة" بالعدل، وكل ذلك بالاستمداد من "القيوم" سبحانه. وكما يوضح الطبري، فإن الأمر بإقامة الصلاة في هذا السياق جاء "ليطهّروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم"، فالصلاة "كفارة للذنوب"، وعلاج لجذور الانحراف.
"إيتاء الزكاة": من "طهارة النفس" إلى "عمران المجتمع"
إن "القامة" الروحية التي تبنيها الصلاة، لا بد أن تظهر ثمرتها في "العطاء" و"النفع" المتعدي. فإيتاء الزكاة هو "الترجمة العملية" للقلب الذي أصلحته الصلاة. إنها "طهارة" للنفس من "الشح" و"الحرص المرضي على الحياة"، و"ارتقاء" بها إلى مقام الإحسان.
ولشدة هذا "الاقتران" بين الركنين، ولأنهما يمثلان "جوهر" الدين العملي، رأينا كيف أن الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه، بفقهه العميق، لم يرَ في مانعي الزكاة مجرد "متهربين من الضريبة"، بل رأى في فعلهم "نقضًا" للميثاق، و"تفريقًا" بين ما جمعه الله، فأعلن قولته الخالدة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". لقد أدرك الصديق أن التفريق بينهما هو بداية "منهج التبعيض" الذي هو أس كل انحراف.
"وما تقدموا لأنفسكم": من "سجن الأماني" إلى "واقع الاستثمار"
بعد الأمر بالأركان، يأتي "القانون العام" الذي يهدم "سجن الأماني" من أساسه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾. إنه تحويل للوعي من "الخيال" السلبي إلى "العمل الاستثماري" الإيجابي. فأنت لا تنال الجنة بـ "الأماني"، بل بـ "ما تقدمه" من خير.
وهذه الآية، كما يبين ابن عاشور، هي "علاج للإحباط" الذي قد يصيب الناهض حين يقابل إحسانه بالجحود، فهي تذكره بأن خيره "لا يضيع عند الله". بل إن الله، كما يستنبط البقاعي، لا "يحفظ" هذا الخير فقط، بل "يربيه بما له من الكرم والرحمة".
خاتمة: "إن الله بما تعملون بصير"
إن الخروج من كل "آفات" بني إسرائيل يبدأ من "إقامة" هذين الركنين. وتأتي "الرقابة الإلهية" في ختام الآية لتكون هي "الضمانة" و"المحرك" لكل ما سبق. فقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، كما يقول الطبري، هو خبر يتضمن "وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا".
وعلى الناهض الذي يريد أن يتجنب "خزي الدنيا وأشد العذاب"، أن يترك "منطق التبعيض" و"وهم الأماني"، وأن ينخرط بكليته في "مشروع الإقامة" و"التقديم"، موقنًا أن الله "بصير" بكل عمل، وأن ما عنده خير وأبقى.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.